وفاء الأحرار والوفاء للأحرار
كنت واحداً من بين 1027 أسيراً وأسيرة استطاعت المقاومة الباسلة تحريرهم من أغلال القيد، وفتحت بالقوة أمامهم أبواب الحرية، ولكنني تركت جزءاً مني ومن فرحتي على أبواب الزنازين.
كان يوماً مختلفاً عن باقي الأيام في حياتي الشخصية، ومن شبه المستحيل تكرار تفاصيله الخاصة والعامة وما امتزجت به لحظاته من مشاعر وأحاسيس تتصل في جوهرها الإنساني بأبعاد الحكاية الفلسطينية، التي تنتج حصرياً في الزمان والمكان الفلسطيني، وفوق ثرى هذا الوطن الحبيب الذي تكونت روايته من هذه المواقف الانفرادية.
18 تشرين الأول/أكتوبر 2011
هذا التاريخ انطلاقة جديدة لمسار كفاحي اخترته، لننتقل من ساحة المعركة خلف القضبان إلى ساحة المواجهة الأوسع على الأرض التي عشقنا ترابها وجبلنا منها أحلامنا ووقائع حياتنا.
انتقلت في هذا اليوم إلى غزة هاشم، محروماً من احتضان طوباس الحبيبة وعناق أهلها، وممنوعاً من حق الحياة مع أسرتي الصغيرة، لنكون في غزة مع أبناء شعبنا العظيم الذين نتلحف دفئهم، ونستمد منهم العزم والثبات والصبر والقوة على مواصلة الطريق نحو الحرية الكاملة لفلسطين الأرض والإنسان.
كنت واحداً من بين 1027 أسيراً وأسيرة استطاعت المقاومة الباسلة تحريرهم من أغلال القيد، وفتحت بالقوة أمامهم أبواب الحرية، ولكنني تركت جزءاً مني ومن فرحتي على أبواب الزنازين، بانتظار اكتمال الفرح بالحرية الكاملة لآلاف الأسرى الذين حملوا على أكتافهم أعظم التضحيات، وكانوا في المقدمة مع من سبقوهم إلى الشهادة، يصنعون تاريخ الكفاح الوطني من أجل الحرية.
في ذلك اليوم الاستثنائي بكل شيء، استطاعت المقاومة الفلسطينية، ولأول مرة في تاريخ الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، إنجاز عملية لتبادل الأسرى على الأراضي الفلسطينية المحتلة بهذا الحجم والترتيب. ولأول مرة أيضاً، يفشل الاحتلال في الوصول إلى جنوده لقتلهم، حتى لا يرغم على الرضوخ لمبادلتهم، كما حصل في العديد من المعارك والعمليات البطولية التي نفذتها فصائل الثورة الفلسطينية، واحتجز أثناءها الفدائيون الفلسطينيون مجموعات من الأسرى الإسرائيليين، والتي كانت تنتهي بتنفيذ حكم الإعدام بحق الجميع، كي لا تتمكن المقاومة من تكريس هذا المنهج في الصراع مع الاحتلال.
وفاء الأحرار
كانت البداية لفرض قواعد جديدة في المواجهة، وكانت إشراقة الأمل الكبرى التي نفذت فيها المقاومة وعدها لأسرى الحرية، لتعظيم ثقتهم وعزيمتهم بحتمية الحرية، مهما طال زمن القهر والظلام الصهيوني، وأنهم كانوا وسيبقون العنوان الأساس لإرادة المقاومين ولتضحياتهم.
وهنا، وقبل كل شيء، وأمام عظمة هذا اليوم، فإن الحق يقتضي أن ترفع الهامات لشعبنا العظيم في غزة هاشم، ولكل أبطال المقاومة الفلسطينية، الذين قاتلوا وصمدوا أمام آلة الدمار الإسرائيلية التي لم تدخر وسيلة لمنع حصول الهزيمة والوصول إلى واقعة تبادل الأسرى بقوة الأمر الواقع الذي صنعته المقاومة.
كما يقف على قمّة المجد أولئك الأبطال الذين ضحّوا بحياتهم في عملية "الوهم المتبدد"، والمقاتلون والقادة البواسل الذين أخذوا "صيدهم" الثمين، وكانت ملحمة احتجازه والاحتفاظ به أكثر من 5 سنوات واحدة من أبرز الدلالات على قوة المقاومة وصلابتها وما راكمته من خبرات وقدرات نوعية وفنون في إدارة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي.
وقد كان للشهيد القائد أحمد الجعبري، المهندس المبدع الذي قدم حياته، وقبلها حياة جزء من أسرته، عظيم الأثر في رفع مكانة المقاومة وقدرتها، وفي تحقيق هذا النصر الخالد في تحرير الأسرى، وفي كتابة فجر جديد من زمن الانتصارات على العدو الإسرائيلي.
الجعبري سيبقى خالداً خلود الوفاء في هذه الحياة، وسيبقى عطاؤه يثمر من نبع دمائه الزكية الطاهرة، إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. الجعبري الذي عانق أبو عطايا، سيكتب لهما في جنة السماء أنهما من المومنين الصادقين بوعدهم، والذين أصبحت إيمانهم يقيناً يلهم من بعدهم الخُّلَص الميامين.
وعلى هذه الأرض، سيبقى نورهم يضيء طريق الأوفياء من تلاميذ هذه المدرسة التي حولت المستحيل إلى حقيقة جعلت "الوهم المتبدد" ووفاء الأحرار بداية العهد الجديد.
الوفاء للأحرار
تحل الذكرى السنوية التاسعة لعملية التبادل في ظل تحديات كبرى تقف أمام الشعب الفلسطيني وفصائله الوطنية والمقاومة الباسلة، وأمام الحركة الأسيرة على وجه الخصوص، فلليوم الخامس والثمانين، يواصل الأسير البطل ماهر الأخرس الإضراب المفتوح عن الطعام، لإسقاط سياسة الاعتقال الإداري، كما يواجه الأسرى في جميع السجون تصعيداً خطيراً في الإجراءات القمعية تطال جميع جوانب حياتهم اليومية، وتتعمد إدارة السجون إهمال مطالبهم لتحسين شروط الحياة الصحية والمعيشية وغيرها من القضايا الضرورية لأبسط الحقوق الإنسانية للأسرى.
إن تزايد الأوهام لدى الكيان الإسرائيلي باستثمار صفقات التطبيع والأسرلة التي هرول نحوها بعض حكام الدول العربية، والحصار المفروض على الشعب الفلسطيني ومؤسساته الشرعية من قبل إدارة ترامب وحلفائها، يتطلبان الإسراع في ترجمة نتائج الاتفاقيات التى توصلت إليها الفصائل الفلسطينية، وإطلاق الإرادة الوطنية والشعبية الموحدة للتعامل مع هذه التحديات، وإجبار الاحتلال على إعادة حساباته السياسية والميدانية بالوقائع الملموسة التي تؤكد قوة العامل الفلسطيني وتأثيره وحضوره في المشهد السياسي الإقليمي والدولي.
وفي هذا السياق، فإن الوفاء للأحرار الذين ما زالوا يواصلون صمودهم البطولي خلف القضبان يتطلب الإشادة بالمواقف الوطنية المميزة التي جسدتها الهيئة القيادية لأسرى حماس في صفقة وفاء الأحرار، ومطالبة المقاومة الفلسطينية بالاستفادة من الدروس واستخلاصات التجربة السابقة، وإرساء معادلة جديدة لمفاوضات تبادل الأسرى، تأخذ بالاعتبار الخروقات التي تعمدت القيام بها سلطات الاحتلال، عبر إعادة اعتقال عشرات الأسرى المحررين، وتجديد الأحكام السابقة بحقهم، وإبعاد بعضهم، ومطاردة البعض الآخر.
وينبغي التمسك بالأسس والمعايير التي تحقق الحرية للأسرى من دون قيد أو شرط، وإعطاء الأولوية لقدامى الأسرى والمرضى وكبار السن والنساء والأطفال وأبناء القدس والداخل، وتوفير الضمانات لإبرام صفقة نوعية بكل عناصرها والتزاماتها القانونية.
وللوفاء للأحرار، فإن قضية الأسرى التي تتصدر الإجماع الوطني والشعبي تحتاج إلى المزيد من الخطوات الحقيقية الجادة، لتصحيح برنامج النضال المطلبي والسياسي في مواجهة القمع والاضطهاد الإسرائيلي، وتفعيل الاهتمام بكل قضايا الأسرى، وأهمها دفن سياسة الاعتقال الإداري، وإسقاط التشريعات والقوانين العنصرية التي اتخذتها الكنيست الإسرائيلية، وتوفير ظروف إنسانية كريمة للأسرى وعائلاتهم على طريق انتزاع حريتهم، وصولاً إلى تحقيق الحرية والاستقلال للشعب الفلسطيني، ودحر الاحتلال عن جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة.
الوفاء قضية ورسالة يجتمع عليها كل الأحرار، وهي الفلسفة التي يشق بها الزمنَ كريم يونس ونائل البرغوثي وجميع عمالقة الصبر الذين ما تبدّلت إرادتهم مع تبدل قضبان السجن.