المقاومة العالميَّة: نحو نظام إنساني جديد (2)

تتشكّل بنى الحرب الشاملة على المقاومة من مؤسّسات إعلاميّة وشركات علاقات عامة ومراكز أبحاث وناشطين وإعلاميين ومنظمات غير حكومية، تتلقّى جميعها تمويلاً لتحقيق هدف واحد "شيطنة المقاومة".

  • تتشكّل بنى الحرب الشاملة على المقاومة من مؤسّسات إعلاميّة تتلقّى تمويلاً لتحقيق هدف واحد
    تتشكّل بنى الحرب الشاملة على المقاومة من مؤسّسات إعلاميّة تتلقّى تمويلاً لتحقيق هدف واحد "شيطنة المقاومة"

فيما تشهد الحضارة الغربية المتطوّرة تقنياً موت الواقع، واصطناع واقع آخر مزيّف مشبع بالثقافة الرأسمالية المتوحّشة المفرغة من المعنى، تتعالى أصوات المفكرين الغربيين المطالبين بإعادة النظر في رؤية الحضارة الغربية للإنسان والتقنية. مطالبة إنسان في بلاد ما بعد الحداثة بالثورة ومقاومة النظام المسبّب بهلاك الإنسانية، هي في الحقيقة معركة لاستعادة الرّوح. لماذا؟ لأن في وجود الرّوح مصداقاً على نبض الحضارة، وفي تغييبها مؤشراً على الأفول. الرّوح في أصل نشأتها مقاومة للبقاء على قيد الحياة. 

بالعودة إلى السؤال الذي ختمنا به الجزء الأول من المقال (وهل في ذلك نوع من السرّ؟)، يتبيّن معنا أنّ السرّ هو في الرّوح الإنسانية المقاوِمة. وفي الحديث عن الرّوح والحرب، قرأت ذات مرّة مقالاً ورد فيه تعريف عن الحرب يعود إلى المؤرخ اليميني الأميركي فيكتور دافيس هانسن، وهو: "الحرب هي إيجاد الوسائل الأفعل والأسهل والأعنف لقتل الخصم وإزهاق روحه وإخماد حياته، وتحويل جماهير ضخمة من المواطنين الذكور الأحرار إلى آلات قتل ميكانيكية بلا قلب أو مشاعر تجاه العدوّ". 

هذا التعريف يحيلنا إلى تأكيد نقطتين: الأولى هي أنّ أميركا تخسر الحرب، لأنّها تشنّها على الرّوح، والرّوح بطبيعتها لا تهزم، وثانياً أنّ القوات الأميركية المحاربة تفتقر إلى الرّوحية الإنسانية، إذ إنّها صوّرت في القول المذكور على هيئة آلات قتل ميكانيكية بلا قلب. 

وهنا، من المفيد أن نقدّم مصداقاً آخر في الجهة المقابلة، جاء على لسان أهمّ قادة حركات المقاومة في القرن الواحد والعشرين السيد حسن نصرالله، باعتراف العدوّ قبل الصديق، يكشف فيه عن سرّ القوة: "... سرّ قوتنا الّذي لا يفهمها هؤلاء، ولذلك يخطئون ويتعبون أنفسهم، ويستهلكون السّنين، ويفشلون في نهاية المطاف، هو في هذا الإيمان، في هذه الرّوحية السّارية في المقاومة وبيئة المقاومة وجمهور المقاومة". 

إذاً، محور دعاة الرّأسمالية المتوحّشة في أزمة انهيار حضاري مقابل صعود قوة محور المقاومة العالمي وتناميه. وبالتالي، بات الحديث عن تاريخ جديد تصنعه الرّوح المقاومة على امتداد العالم ضد الهيمنة الغربية، كلٌ بحسب موقعه وإمكانياته: ابن الحضارة الغربية ذو النزعة الإنسانية يقاوم بالفكر والكلمة لاستعادة الرّوح الإنسانية، وابن الأرض والثروات المسلوبة في العالم الثالث يقاوم بالرّوح، مقدّماً نموذجاً حضارياً حول مسألة البقاء كـ"إنسان" على الأرض.

أن يقاوم محورٌ الهيمنة الغربية عالمياً، يعني أنّ يردّ عليها بالتّنوّع الهويّاتي، وهذا ما نجده في المحور المقاوم المتشكّل على امتداد العالم. المحور ذو الهويّات المتنوّعة ثقافياً ودينياً وعرقياً موحّدٌ على هدفٍ مشترك: مقاومة قاتل الرّوح الإنسانية، ناسفاً بذلك مقولة صراع الحضارات وصراع الأديان، والتي نظّرت لها مراكز إنتاج المعرفة في القوى الاستعمارية لتأجيج الصّراعات في المنطقة. هي حقاً جمالية أكسبت المحور بعداً أممياً وعمقاً إنسانياً تجعله يرتقي إلى النّموذج الجديد القادر على حلّ الأزمات التي فشل في حلّها النظام العالمي المفروض من قبل القوى المهيمنة.

محاولات الاغتيال المعنوي للمقاومة

المشهد العالمي واضح. نحن أمام صراع عالمي بين محورين: محور دعاة الرّأسمالية المتوحّشة، ومحور المقاومة العالمي. وبعدما باتت كفّة الميزان تميل إلى محور المقاومة العالمي، تحاول الولايات المتحدة الأميركية وأدواتها في المنطقة إثارة النّزاعات الداخلية في دول المقاومة وشعوبها. 

ولهذا، أشهرت الإدارة الأميركية وعرّابو الرّأسمالية المتوحّشة كلّ أدواتهم، حتى بات الحديث عن بنى تحتيّة للحرب الشّاملة على حركات المقاومة المتنوّعة في لغتها وثقافتها وجغرافيّتها. تتشكّل هذه البنى من مؤسّسات إعلاميّة وشركات علاقات عامة ومراكز أبحاث وناشطين وإعلاميين ومنظمات غير حكومية، تتلقّى جميعها تمويلاً لتحقيق هدف واحد "شيطنة المقاومة"، عبر تعويم الفضاء الإعلامي بسرديّات تحاول إعادة تشكيل صورة مزيّفة عن المقاومة في التصوّرات الإدراكية للشّعوب. 

ونذكر من هذه المحاولات، على سبيل المثال، ما كشفت عنه وثائق نشرتها منظمة Anonymous مؤخراً عن الحرب الدّعائية التي تموّلها أميركا وبريطانيا، وتديرها شركات علاقات عامة تنتج ناشطين بالتنسيق مع مؤسسات إعلامية محلية وعالمية، لتشويه صورة النظام السوري، وتقديم المعارضة السورية المدرّبة في صفوف الشركات الأميركية كبديل سياسي يخدم السياسات الأميركية في المنطقة. وعندما نقول سياسات أميركا في المنطقة، فإننا نقصد الحفاظ على كل ما يدرّ لها المال والثروات على حساب الشعوب. 

رضخت بعض الأنظمة العربية والغربية لثقافة الرّأسمالية المتوحّشة وتزيّنت بلباسها وتبنّت مبادئها، إضافةً إلى المستفيدين منها من النّخب الثقافية والإعلامية والسياسية. أعلنت حربها على عدوّ خلقته لها القوى الاستعمارية، مطلقة ضدّه خطاباً شبيهاً إلى حدّ التّطابق الكلّي بسرديّات تلك القوى: محور الشرّ، إرهاب، فائض القوة، فساد، تجارة مخدرات، أدوات ايران في المنطقة، السلاح غير الشرعي، رجعيون، تبعية عمياء... 

العداء للمقاومة من بعض الدّول والشخصيات المطبّلة لها باسم الإنسانية والسّلام والانفتاح على العالم يحيلنا إلى سؤال جوهري: هل هذه الدّول هي في تاريخها، بل وحاضرها، ذات طابع إنساني؟ أليست هي نفسها من أسّست الولايات على دماء سكانها الأصليين؟ أليست هي نفسها التي أبادت شعب الجزائر، وسيطرت على ثروات البلاد الأفريقية، واستعبدت شعبها؟ أليست هي نفسها التي شنّت أول هجومٍ نووي في التّاريخ على هيروشيما وناغازاكي؟ أليست هي نفسها التي أعطت وعداً لحركة عنصرية بإقامة وطن عبر إبادة أهل الأرض التاريخيين؟ أليست هي نفسها التي سلبت الأرض، وحرّفت التاريخ، وقتلت أطفال لبنان وفلسطين؟ أليست هي من ارتكب المجازر والفظائع في العراق؟ أليست هي نفسها التي قتلت أطفال اليمن جوعاً؟ أليست هي نفسها التي قطّعت صحافياً بالمنشار؟ أليست هي نفسها من اعترفت بأنّها صنعت عدواً ظلامياً لم يشهد التاريخ مثيلاً له بوحشيته... وختاماً، أليست هي من يطالب مفكروها باستعادة الرّوح الإنسانية في حضارتهم المأزومة؟

كلّها دول تندرج في لائحة واحدة مشتركة في تاريخ الجرائم وإبادة الإنسان والعداء لفكرة المقاومة. هي لائحة مشرّفةٌ معاداتُها من إيران الثّورة الخمينية على استكبار الشّاه، وحزب الله المقاوم محرّر البلاد من العدوّ الإسرائيلي والإرهاب التكفيري، وفلسطين المظلومة المقاومة، واليمن المدافع عن أرضه وثرواته، وسوريا المصرّة على خيارها المقاوم، ومصر جمال عبد النّاصر، ونهج تشافيز في فنزويلا، وكذلك تشي غيفارا في كوبا، وجميع النّاشطين والمفكرين والكتاب العالميين المناهضين لهيمنة الرأسمالية المتوحّشة. 

خاتمة

لكم أن تتخيّلوا أحد دعاة الهيمنة العالمية وهو يعترف بالحقيقة التي استشرفها سارتر في مقدمة كتاب فانون: 

"... ما الذي حدث؟ حدث كل هذا ببساطة، وهو أننا كنّا صنّاع التّاريخ، فأصبحنا الآن عبيده. لقد انقلب ميزان القوى، وتصفية الاستعمار قائمة على قدم وساق، وكلّ ما يستطيع مرتزقتنا فعله هو محاولة تأخير إنجاز هذه التّصفية". 

لكم أن تتخيّلوه مرّة أخرى عاجزاً في ما هو يقرأ هذه الكلمات من المصدر نفسه: 

"... إنّهم يناقشون المصير الَّذي يرصدونه لمواقعكم التجارية، وللمرتزقة الذين يدافعون عنها، وقد يرونكم، ولكنّهم سيستمرّون في التحدّث في ما بينهم، حتى من غير أن يخفضوا الصّوت. هذه اللامبالاة تضرب القلب: إنّ الآباء الّذين هم مخلوقات الظلام، مخلوقاتكم "أنتم"، كانوا أرواحاً ميّتة، كنتم تنشرون عليهم النّور، ولم يكونوا يتوجّهون إلا إليكم. رغم ذلك، فإنكم لا تتكلّفون الإجابة على هؤلاء الأشباح. أما الأبناء فيجهلونكم: إنّ ناراً تضيئهم وتدفئهم، هي ليست ناركم. سوف تشعرون وأنتم على مسافة محترمة بأنكم متخفّون في الظّلام ترتعدون. في هذه الظلمات التي سينبثق منها فجر جديد، ستكونون أنتم الأشباح".