ألغام الخطاب الإعلامي وشحناته المتفجرة

مصدر الخطر علينا جميعاً هو الخطاب الإعلامي الَّذي شحن بالمتفجّرات والصواعق غير المرئية التي تتطلَّب مجهر العقل، لملاحظتها والإمساك بها والتعامل معها بحذر، حتى لا تنفجر في وجوهنا.

  • ألغام الخطاب الإعلامي وشحناته المتفجرة
    ألغام الخطاب الإعلامي وشحناته المتفجرة

إنَّ أخطر خطاب على الإطلاق في المجتمع الإنسانيّ على هذا المجتمع نفسه، هو الخطاب الإعلامي، لشحنته المتفجّرة القويّة "المكبوسة" والمدكوكة في كلماته وعباراته، ومشاهده وصوره، وحركاته وسكناته، وإشاراته وغمزاته ولمزاته، ومعلوماته وحقائقه، وحتى تدليسه وكذبه وبهتانه، وهو عندما يستهدف موضوعاً ما أو قضية أو شخصاً أو هيئة أو مجتمعاً أو طبقة معينة، فإنه يعرف جيداً كيف يلمع سحنتها، ولو كانت وسخة، أو يجعلها متسخة، ولو كانت لامعة! فهو متدرب جداً ومؤهل لهذه الوظيفة جيداً، ولست أعلم من هو أفضل منه مهارة في دراسة اللغة وخطابها في المجتمع وتحليلها وتوظيفها وتجييرها لصالحه ولصالح الجهات المستفيدة من خدماته أو تلك التي تستعمله، فعالم اللغة أو اللساني يشتغل على اللغة موضوعاً للدراسة، لاكتشاف نظامها ومكوناتها وحقائقها، بغرض العلم بها وتعليمها، بينما الإعلامي يشتغل عليها لغرض نفعي أكثر من كونه علمياً، فهو يستفيد من خدمات اللساني في سوق اللغة إلى ساحة معاركه.

إن الإعلام يوظف اللغة أحسن توظيف في خطابه الموجه إلى الجمهور لصناعة الرأي العام، وفي تشكيل المشاهد التي يريدها لنفسه، تحقيقاً لأهدافه المضمرة التي قد تتوافق مع تلك المعلنة أو تظل مطمورة في النيات، لا يعيها إلا من خبر اللغة والإعلام جيداً ووعاهما، وعرف استراتيجيات الأخير في تركيب الأحداث والوقائع أو الوهميات والمتخيلات في سياق مرتب يفقد العقل والحواس وظائفها في التفكير والتحليل والنقد، ويضرب على وتر العاطفة نغمات مجيشة لعوامل الإثنية والإيديولوجيا والدين والعرقيات الدموية والروابط الحزبية... لخلق رابطة التكتل ضد موضوع ما، أو ضد قضية ما، أو ضد الغير المغاير له والمختلف عنه، فتفقد حينئذ الموضوعية موقعها في هذا الخطاب الإعلامي الذي قلَّما وجدت فيه، كما تتنحى الحيادية عن مكانها، فاسحةً المجال للانحياز والتبعية ليستقران فيه، ويفعلان فعلهما السحري في خروج يأجوج ومأجوج وتأجيج الأوضاع بما لا يطاق من أفعال وأقوال... وفي فقدان العامة و"الخاصة" صوابهم وعقلانيتهم ورزانتهم وحكمتهم نحو التعصب والتزمت والعنف في أوقات كثيرة، فتتأجج النيران، ويشتد لهيبها، وتحرق الأخضر واليابس في طريقها نحو أهدافها!

في خضم هذا الوضع، يجب أن يقرأ المرء الخطاب الإعلامي بفكر واعٍ متنبّه وفطن ويقظ ومدرك وناقد، ويدقق في كلماته ومفرداته ومعانيه وأساليبه ومشاهده بكل تفاصيلها، ولا يتسرّع في تبنّيها أو تصديقها أو التعاطف معها أو بناء قرارات وأحكام عليها... يجب أن تقع في دائرة الشك لديه حتى ينتفي عنها بالدليل العلمي القطعي أو بالوقائع والشواهد التي تبلغ درجة الإثبات القاطع. 

أما ترك العقل جانباً، والاشتغال بالجهل والعاطفة والتعصّب والتبعية وإلغاء الذات، فهي مهلكة المرء والمجتمع على حد سواء. وما أكثر هذا المسلك في العالمين العربي والإسلامي! حيث يستبدّ بنا الجهل والفقر الفكري، والعصبية بكل أنواعها، والقبلية بكل عرقياتها، فنندفع وراء مشاعرنا وأحاسيسنا وعواطفنا بكليتنا من دون أن نفكّر أو نأخذ مسافة عما نحن فيه، لقراءته قراءة تحليلية نقدية نتبين بها الخطأ من الصواب، والحقيقة من الكذب، والصدق من التدليس... فنغرق في الخلافات الفكرية والمذهبية والفقهية وغيرها، ونذهب إلى التحارب بكلّ الوسائل المتاحة لدينا، بما فيها الوسائل غير المشروعة والدنيئة، ولا نلتفت إلى أن مصدر الخطر علينا جميعاً هو الخطاب الإعلامي الَّذي شحن بالمتفجّرات والصواعق غير المرئية التي تتطلَّب مجهر العقل، لملاحظتها والإمساك بها والتعامل معها بحذر، حتى لا تنفجر في وجوهنا.

وفي هذا السياق، لكي نوضح الفكرة، سأضرب مثالاً حياً يقع الآن بيننا، حيث تقع الحرب بين أذربيجان وأرمينيا في إقليم ناغورنو كاراباخ، نتيجة صراع دول بعينها فيه، وقودها الإرث التاريخي المبني على العرقيات والديانات والأخطاء السياسية التاريخية، وما جاورها من إيديولوجيات ومذاهب وتيارات سياسية، فضلاً عن مصادر الطاقة ومصالح الدول الكبرى في المنطقة وخارجها، والتي ترتبط بهذا الطرف أو ذاك، وحطبها الإنسان الأذربيجاني والأرميني الذي يحترق في أتون الأسلحة الفتاكة التي تتدفَّق إلى الطرفين من مناصريهما، من دون استحضار العقل وإعمال الحوار من أجل الخروج من الأزمة بأقل الخسائر، ووضع حدّ لهذا التوتّر المستمرّ بينهما. 

وفي مشهد الحرب بينهما، يقع الخطاب الإعلامي الذي يغذي هذا الصراع بما يدسّه في دسمه من سموم فكرية ولغوية ومغالطات ثقافية. ولأجل الانتقام من الخصوم وشيطنة دول بعينها، يذهب الإعلام إلى تحميل مشهد الحرب بالعقيدة الدينية، سواء الإسلام منها أو المسيحية، وصبغها بالحرب العقائدية، إذ يقحم عمداً دعم هذه الدولة للطرف المسيحي، رغم كونها إسلامية، ودعم الأخرى للطرف المسلم الشيعي، رغم كونها سنية! والسني والشيعي يتقاتلان في جغرافية بلد آخر على أساس التكفير، هنا حلفاء وهناك أعداء! فكيف تركب هذه الصورة من المتناقضات والمتضادات ويقبلها العقل السليم في نطاق الحرب العقائدية؟! أليست الحرب هنا هي حرب مصالح دول وسياسات أكثر من كونها حرب دين؟ فلماذا يقحم الإعلام الدين هناك؟ أليس للانتقام من أطرافها لنجاحاتهم في مواقع جغرافية أخرى؟ أليس لاستجلاب المحاربين ودعمهم باسم الدين وتسعير العواطف لديهم؟ أليس الحوار قادماً، مهما كانت نتائج الحرب بالنسبة إلى الطرفين؟ 

إنَّ التفاوض من باب القوة لا يجلب الأمن على امتداد التاريخ، وإنما هو يصلح لمرحلة تاريخية بالنسبة إلى القوي الذي بمجرد ما تزول عنه القوة يرجع المشكل أدراجه إلى منطقة البداية. ألا يعد التفاوض الآن أفضل من إحراق اليابس والأخضر، وخصوصاً العنصر البشري الذي لا يعوض؟ ولماذا في الأخير شيطنة دول بعينها باسم الدين، رغم غياب الدين عن الموضوع، وكونه غير جوهري فيه، ولو حضر ضمنياً بحكم طبيعة المعتقد الديني للطرفين؟ هذا المشهد في الواقع معقد يزيده الخطاب الإعلامي تعقيداً ولبساً وضبابية. وقد سكت عنه فقهاء الحروب، وتصدت له الدول الكبرى بالتحريض والدعم بكل أنواعه لإحراق الطرفين معاً.