التّفكير النّقديّ انعتاق من القطيع
التفكير النقدي هو الحصن الحصين من ارتكاب الأخطاء، ومن الذهاب إلى تفجير المجتمع من الداخل، ومن نسف نسيج المجتمع المتضامن والمتكامل والمتكافل والمتفاهم.
في زمن انتشار وسائل ووسائط الإعلام والتواصل الاجتماعي كالفطر في المجتمع الإنساني، بما فيه المجتمع العربي، وتنوّع مصادرها وغاياتها، واختلاف مشاربها الفكرية والإيديولوجية والعقائدية والسياسية والثقافية، وتضارب أطروحاتها ومقولاتها وأخبارها ما بين الصَّحيحة والخاطئة والحقيقية والمزيفة الكاذبة، وما بين الواقعية والمفترضة والاحتمالية والموهومة، أصبح لزاماً وضرورياً أن يمتلك المرء المنخرط والمشارك والمتتبّع لهذه الوسائل فكراً نقدياً، فضلاً عن معرفة نقدية واسعة تساهم في تحصينه من النتائج السلبية الناجمة عن تعاطيه مع ما تروّجه من أحداث وأخبار ومقولات وأطروحات فكرية ذات بعد غائي مصلحي لأفراد أو فئات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو دينية...
أو لزعامات وقادة يوظفون هذه الوسائل لمآربهم وأغراضهم ومصالحهم الخاصة، أو لدول أجنبية تسعى للسيطرة على دولهم لنهب ثرواتها وسلب إرادتها وتهشيم معنوياتها... فتُسخَّر هذه الوسائل من خلال شراء الضمائر بالمال، أو الموقع الاجتماعي، أو السياسي، أو الثقافي، أو الاقتصادي، أو إسداء خدمات معينة، أو حتى مجاناً من دون مقابل، نتيجة استغفال أو استحمار أو استبهال أولئك الأفراد أو الجماعات أو المؤسسات.
وكثيراً ما تثير هذه الوسائل الفتن والحروب، وتشكّل الرأي العام وتدعمه، بقيادة الرعاع والسذّج الشعبويين إلى مناطق التحارب والتقاتل، من دون أن يعرفوا سبب انخراطهم في هذه الحروب والقتل وسفك الدماء أو موضوع الاشتباك، إذ غالباً ما يكونون خارج وعي الحدث وتحليله موضوعياً ومنطقياً ومعرفياً، من دون غيابهم عنه حضورياً، وقوداً مشتعلاً يحرق الأخضر واليابس، ويطحن ذاته طحناً مميتاً، حتى ما إذا استفاق من غفلته وبلادته، وجد نفسه في مربع اللاعودة، لا يمكنه الرجوع إلى الوراء!
كلّ هذا نتيجة غياب التفكير النقدي وقت الانخراط في الأزمة، وانعدام أخذ مسافة للتفكير والتحليل الموضوعي لنوازل الاشتباك. وفي سياقه، يمكن ملاحظة أننا لا نمتلك التفكير النقدي وثقافته، لغيابه عن منظومة التربية والتكوين منذ الصغر، فتعليمنا وتربيتنا وتنشئتنا الاجتماعية تنأى بنفسها عن تعليم الناشئة وتربيتهم على التفكير النقدي، وتأسيس ثقافة مجتمعية نقدية تحتضن النقد البناء، وتساهم في شيوعه في المجتمع ضمن ضوابطه وأخلاقياته، ويصبح أمراً عادياً لا يهابه أحد، وإنما يكون مطلوباً في المجتمع للتصحيح والتطوير والتحبير والتجويد والارتقاء الإنساني في سلّم القيم والقيمة.
لقد غدا التفكير النقدي ضرورة حياتية لمن أراد أن يكتسب وعياً معرفياً لما يعتقده ويفعله هو أو الآخر، ويشرِّح الأوضاع والوقائع من منطلق معرفي صلب بمشرط النقد، ويدقّقها عن معرفة ووعي، ويجلي غاياتها واستراتيجياتها وآلياتها وأدواتها، ويكتشف سيرورتها، ويتخذ موقفه وقراره منها، فضلاً عن نهجه اتجاهها، بكلّ وضوح ودقة وعمق واتساق ومنطقية وإجرائية وشمولية وتجريبية وجرأة ومسؤولية واستقلال ذاتي وفكري، فلم يعد في ألفية ومجتمع المعرفة وعصر النانو والتكنولوجيا الرقمية مقبولاً وجود عقل عربي فردي وجمعي غير ناقد، لا تعليمياً، ولا ثقافياً، ولا اجتماعياً، ولا إعلامياً، ولا معرفياً، ولا سياسياً، ولا اقتصادياً...
فبه يمكن مواجهة الحملات التحريضية والتضليلية، وكشف تدليسها على الجماهير الشعبية، وترقية تلقّيها ما تطرحه الحملات من مادة إعلامية جماهيرية وشعبية، من التلقي السلبي إلى التلقي الإيجابي، فلا يعود معه انقياد الشخص إلى طروحات الإعلام عفوياً، وبسذاجة مفرطة في بعض الأحيان، مغمض العينين ومكمم الشفاه، يسير سير القطيع خلف قائد هذا القطيع، ويتبنى من دون فحص ولا تمحيص ما قاله ويقوله الزعيم القائد، وينادي بما نادى، ويرفع الصوت ويخفضه متى طلب منه ذلك، فيخرج من دائرة التبعية الفكرية والإثنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية إلى دائرة الفكر الحر والمستقل والمسؤول، وإلى دائرة المواطنة التي تسع الوطن كله ومكوناته تحت سقف القانون الذي يعلو فوق الجميع، ولا علو لأحد عليه، وتحت مظلة الحوار واحترام الرأي الآخر إزاء احترام قواعد اللعبة الديموقراطية في الوطن، والحفاظ على السلم الأهلي والمنجز الحضاري المتحصل من جهود الجميع أسلافاً وأبناء وأحفاداً...
فالتفكير النقدي هو الحصن الحصين من ارتكاب الأخطاء، ومن الذهاب إلى تفجير المجتمع من الداخل، ومن نسف نسيج المجتمع المتضامن والمتكامل والمتكافل والمتفاهم، وهو الذي يظهر الحقائق موضوعياً وفق طبيعتها وكينونتها، من دون إسقاط خارجيّ عليها، ما يكسبها المصداقية والاقتناع بها عن وعي ودراية، ارتكازاً على حقائقها المكتشفة والظاهرة والجليّة.
ولم يعد خافياً على الإنسان العربيّ واقعه المر الذي يعيشه يومياً، ويكابد فيه الشدائد والمعاناة والآلام والجراح التي يتسبّب فيها السياسيون، وزعماء القبائل والطوائف والمذاهب والإيديولوجيات، و"المفكّرون والمثقّفون"، وأصحاب المصالح الخاصة والأهداف الشخصيّة المغلّفة بغلاف المصلحة العامة، والتي يسخّرون الآخرين من أجل تحصيلها، من دون استحضار لمنظومة القيم والأخلاق والمبادئ، وفي تغييب تامّ لمصالح المسخَّر ذاته، الذي يحضر بقوّة في المشهد الحراكيّ، ويغيب في تحصيل المنفعة الذاتية له، وهو السلم الذي يرتقي عليه اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً وفكرياً جهابذة الخداع والتزوير وسماسرة بيع الضمائر، من دون أن يدري أنه أداة تحصيل منافع الآخرين وأغراضهم وأهدافهم.
ويتَّخذ هؤلاء القوم مغالطات منطقية كثيرة وكبيرة في مواجهة الصادقين والشرفاء، فيحسبهم التابع والسّاذج أنهم يقولون الحقيقة لأجله، وأنَّ قلوبهم عليه، في حين أنهم يغالطونه، فلو كان يمتلك التفكير النقدي، لاكتشف مغالطاتهم المنطقية، وصار خلاف ما يزعمون، لكن ما العمل في مجتمع تربى على مناخ التحارب والتطاحن والتقاتل والشحن والطحن في مطاحن صراع الطبقات الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة والإيديولوجيّة والثقافيّة، من أجل تحصيل منافع فئوية وطبقية دون المنافع العامة الوطنية التي اتّخذوها أغلفة لسلعتهم الخاصَّة، وهم يبيعونها للرعاع والسذّج والشعبويين بلغة متحايلة وهيامية ومائعة تزيد المشهد تعقيداً وتأزيماً؟!
لذا، الواجب حالياً أن يمتلك الإنسان العربيّ التّفكير النقديّ، ويواجه به كلّ إعلامي وسياسيّ ومؤدلج ومتديّن واقتصادي و"مثقّف" و"مفكّر" ومستغلّ، يروّج للسخافة والهمروجات والخزعبلات بين الناس والمواطنين عبر وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، وينشر ثقافة الكره والبغض والحقد والتفرقة وتقسيم المقسم، بدلاً من الحب والتعاون والتفاهم والتحاور وخدمة الصالح العام، ويبرّر تصرفاته وقراراته وإجراءاته وآراءه بمسوغات واهية، من قبيل تطبيع الفلسطينيين مع الكيان الصهيوني قبل أي تطبيع، كمسوّغ لأي تطبيع آخر أو لجني أرباح ومنافع متنوعة، كماً ونوعاً، باسم الدولة أو الشعب أو الصالح العام أو المنفعة العامة، كما يفعل بعض "المثقفين العرب" في بيع ذممهم وضمائرهم بالمال للثروة النفطية، ومن أجل الحصول على الرفاهية، فيبرّرون ذلك باسم الانفتاح الثقافي والحوار الثقافي وعالمية الثقافة والأخوة الإنسانية والانفتاح الحضاري على ثقافة الغير!
في سياق بورصة الثقافة، تقع المزايدات المالية على الأقلام المشهورة التي بنت صروح وقصور شهرتها الثروة النفطية، بالترويج الإعلامي الكاذب والمزور، وتحشيد الاحتفالية في القاعات المزخرفة تحت يافطات مراكز ثقافية يتحكم بها الرأسمال النفطي السائب في يد سماسرة الثقافة ودعاة الفكر والعلم، وهم في ظل التفكير النقدي ليسوا سوى ناقلي معرفة ومستوردي علم من عالم الآخرين الذين يملكون ناصية العلم والمعرفة وعائدها المادي والمالي والعقلي والعلمي.
وما يزعمون من ثقافة ليس سوى وهم يجلي واقعهم المتخلف وتأخرهم في سلم الوجود والحضارة والعلم، فثقافتهم المزعومة مدفوعة الثمن مسبقاً لغيرهم، وهي تعرّي اتكالهم واتكاءهم على الآخر في تشييد بنيتهم التحتية والفوقية معاً، وتظهر تخلّفهم العقلي وسلوكهم في ما بينهم ومع الآخر، إذ جمعت ثقافتهم الحقيقيّة منظومة القيم الفاسدة والأخلاق السيئة، التي تمظهرت في تخريب النفس العربية وتخريب بلدانهم بأيديهم وبأيدي الاستخبارات العالمية التي تدسّ السم في عقولهم وهم نائمون حالمون مستمتعون بالدنيا!