هل سقطت المبادرة الفرنسية في لبنان؟

يحاول ماكرون، ومعه أوروبا كلّها، العودة إلى المشرق العربي من البوابة اللبنانية، وفي الوقت عينه، يحاولان المحافظة على آخر موطئ قدم لهم في هذه المنطقة.

  • ماكرون
    يحاول ماكرون ومعه أوروبا كلّها العودة إلى المشرق العربي من البوابة اللبنانية (أ ف ب - أرشيف)

انتابني الكثير من العجب والترقّب منذ زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان بعد انفجار مرفأ بيروت الذي دمّر قسماً كبيراً من المدينة، ما جعلني أطرح عدة أسئلة احتفظت بها لنفسي في بادئ الأمر. أما الآن، فقد حان وقت مشاركتها معكم.

رأيت في المبادرة الفرنسية الكثير من حسن النية والاهتمام، لكن في الوقت عينه، لاحظت أن سقف الطموحات الذي فرضه الرئيس ماكرون على الساسة اللبنانيين عالٍ جداً، وخصوصاً في ظلِّ الوضع القائم في هذه الأيام في لبنان والشرق الأوسط، فقد أعطى الرئيس ماكرون مهلة قصيرة جداً لتأليف حكومة جديدة في لبنان، وللبدء بالإصلاحات، وهو العارف بتعقيدات السياسة اللبنانية، وبالنظام الطائفي، وبمبدأ المحاصصة الذي يحكم لبنان منذ فترة الانتداب الفرنسي وحتى يومنا هذا.

يحاول الرئيس ماكرون، ومعه أوروبا كلّها، العودة إلى المشرق العربي من البوابة اللبنانية. وفي الوقت عينه، يحاولون المحافظة على آخر موطئ قدم لهم في هذه المنطقة، فالأميركي أخرجهم من إيران والعراق وسوريا، والآن يريد إخراجهم من لبنان.

يبدو أيضاً أنَّ الرئيس الفرنسي أراد اللعب على التناقضات الدولية، في محاولة منه للتقرّب من روسيا وإيران عبر البوابة اللبنانية. ولا شك في أنَّ أحد أهدافه هو المشاركة في التنقيب عن الغاز في المتوسط، وإدخال الشركات الفرنسية إلى لبنان، وخصوصاً في سياق إعادة إعمار مرفأ بيروت.

اصطدم الرئيس ماكرون بالداخل اللبناني وبالطبقة السياسية الحاكمة منذ عشرات السنين، والَّتي تعيش في هذه الأثناء أزمة وجودية لا مثيل لها في تاريخ لبنان المعاصر. من المؤكّد أن الأداء اللبناني أفشل المبادرة الفرنسية بعض الشيء، لكن من أفشلها حقيقةً هو الحليف الأميركي نفسه، الذي نسَّق في بادئ الأمر مع الرئيس الفرنسي لأخذ هذه المبادرة، لكن الأميركي أعاد النظر بها وقام بمراجعتها، بهدف عدم السماح لفرنسا بالاستفادة من المكاسب السياسية، وخصوصاً الاقتصادية، في لبنان.

إنَّ المراجعة الأميركية للمبادرة الفرنسية تأتي في سياق الحرب القائمة من قبل أميركا على فرنسا، وعلى أوروبا ككل. إنّ قسماً كبيراً مما يحصل في لبنان في سياق المبادرة الفرنسية هو عبارة عن صراع أميركي أوروبي على الساحة اللبنانية.

لقد حاصرت أميركا الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون، وهي تعرف بأنه لن يسمح لمبادرته بالفشل كلياً، ولن ينسحب بهذه السهولة من الساحة اللبنانية، لأنَّه وضع قسماً كبيراً من رأسماله السياسي وهيبة فرنسا في هذه المبادرة. وقد يكون لكل فشل تداعيات سياسية سلبية في الداخل الفرنسي، وفي المستقبل السياسي للرئيس الفرنسي الَّذي يواجه معارضة داخلية قاسية بعض الشيء، مع الإشارة إلى أنّ فرنسا مقبلة قريباً على انتخابات رئاسية قد يطمح من خلالها الرئيس الفرنسي الحالي إلى انتخابه لعهد ثانٍ.

من هذا المنطلق، نفهم غضب الرئيس الفرنسي وانتقاده الحاد الموجّه إلى الطبقة السياسية اللبنانية. نحن نتّفق معه في الجوهر، لكننا نختلف معه في الأسلوب. وقد لاحظ كلّ المتابعين والمراقبين أنّ هناك تناقضاً في مواقفه الأخيرة، ما قد يؤدي في المستقبل إلى زعزعة المبادرة التي ما زال قسم من اللبنانيين يعوّل عليها. 

إنَّ توجيهه أصابع الاتهام إلى فئة سياسيّة أو شعبيّة معيّنة من اللبنانيين، وتحميلها فشل تأليف حكومة مصطفى أديب، أتى، بحسب المراقبين، كنتيجة لانتقال الرئيس الفرنسي من مبادرة حوار بناء منفتحة على كل الأطراف اللبنانيين من دون استثناء، إلى الاصطفاف وراء المواقف الأميركية التي تهدف إلى ضرب ثقافة المقاومة التي تقف حاجزاً في وجه مشاريع أميركا وحلفائها الإقليميين في الشرق الأوسط. وسواء كنا من هؤلاء الذين يؤيدون المقاومة وجمهورها أو لا، فإن طريقة الرئيس ماكرون والتناقض الذي استشعرناه في خطابه الأخير، قد يقوضان مبادرته، وهذا الأمر قد يحصل حتى لو كان الانتقاد الحاد موجهاً إلى فئة لبنانية أخرى.

يجب الإشارة أيضاً في هذا السياق إلى أن أميركا تسعى منذ وقت إلى إفقار اللبنانيين وتجويعهم، لفرض أمر واقع معين، وكسر إرادة المقاومة، وجرّها إلى تصادمات وحروب داخليّة، ما يشرح تحرّك الخلايا الإرهابية النائمة في شمال لبنان. ويمكن أن نبني مستقبلاً على المبادرة الفرنسية، شرط أن تبقى مستقلة عن السياسة الأميركية في لبنان، لكي يكون لها نتائج على فرنسا ولبنان.

المحزن هو أن تستمرّ فرنسا، ومعها أوروبا، بالخضوع للإرادة الأميركية من دون قيد أو شرط. ومن المعلوم للجميع أنَّ السياسة الأميركية تخلق مشاكل عديدة للدول الأوروبية، وتشكّل في الوقت الحالي عبئاً كبيراً على أوروبا وعلى المحور الغربي، فأميركا تعمل منذ سنوات عديدة ضدّ المصالح الفرنسية والأوروبية.

إنَّ المراجعة الأميركيّة والأداء السياسيّ اللبنانيّ وضعا الرئيس ماكرون أمام طريق مسدود، يعدّ هامش التحرك فيه للتموضع في السّاحة اللبنانيّة ضئيلاً جداً.