موقف تاريخي للجزائر من التطبيع.. الدبلوماسية الجزائرية تغادر التحفّظ؟
المتمعّن في أدبيات الجزائر من القضية الفلسطينية والقضايا العربية والدولية منذ وصول الرئيس تبون إلى الرئاسة يمكن أن يلحظ تحولاً مهماً في خطاب الدبلوماسية الجزائرية.
قد يبدو للمتابع العربي العادي أنَّ المواقف التي أعلنها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون حيال ملف التطبيع مع الكيان الصهيوني، تندرج في سياق موقف دينامي بنيوي تقليدي للمؤسسة الجزائرية الحاكمة في الجزائر.
في إطار القراءة السّطحية، هذا التوصيف صحيح، لكنَّ المتمعّن جيداً في تطوّر أدبيات المواقف الجزائرية من القضية الفلسطينية والقضايا العربية والدولية منذ وصول الرئيس تبون إلى الرئاسة، يمكن أن يلحظ تحولاً مهماً في خطاب الدبلوماسية الجزائرية التي كانت طوال العقدين السابقين على الأقل تتبنّى نظرية صفر خصوم، وتقارب الأزمات من زاوية النأي بالنفس عن الدخول في أي خلافات أو صراعات مع دول عربية، باستثناء الملف الصحراوي الذي له حسابات مختلفة تماماً.
أولى ملامح هذا التحوّل، تبدّت في خطاب القسم للرئيس تبون في كانون الثاني/يناير الماضي، حين أكد أن الجزائر لن تقبل بعد الآن بأن تكون طرفاً متفرجاً على صراع الآخرين في محيطها الاستراتيجي، وفلسطين تقع في هذه الدائرة، تماماً كما الأزمة الليبية والمالية.
بالنسبة إلى موضوع التطبيع، كان لافتاً تصريح الرئيس تبون حين أكّد أن الأزمات التي تعيشها دول الطوق، وكل دول المنطقة، مرتبطة أساساً بالتطبيع، وقال إن الحرب التي شنّت على الشقيقة سوريا كانت مرتبطة به أيضاً، وأضاف أن دمشق لو قبلت في العام 2006 بالمضي في التطبيع وإخراج فصائل المقاومة الفلسطينية، لكان الوضع في سوريا حالياً على النقيض تماماً.
ثاني هذه الملامح في تبدّل المزاج السياسي والدبلوماسي الجزائري في مقاربة قضايا المنطقة، كان في التصريحات اللافتة لوزير الخارجية الجزائري صبري بوقادم، حين أطلق النار على الجامعة العربية، قائلاً عنها: "لا هي جامعة، ولا هي عربية..". هذا الكلام قاله بوقادوم تعقيباً على الدور التخريبي، بحسب المواقف الجزائرية، للجامعة العربية في الملفات الليبية والسورية واليمنية. ومن المفيد التأكيد أنّ مثل هذه التصريحات لم تكن موجودة إطلاقاً في الخطاب الرسمي الجزائري طوال العقدين الماضيين.
تأتي أهمية التمعّن في تحليل موقف الرئيس تبون الجديد في ملفّ التطبيع في هذا السياق، لأن المتابع العارف بشخصيته يدرك أن الصيغة التي تحدث بها حين قال غاضباً ومستنكراً إن الجزائر لن تنخرط أبداً في مسار الهرولة إلى التطبيع مع الصهاينة، هي صيغة موقف في حدّ ذاتها، لأنها لهجة جزائرية رسمية رئاسية تحلَّلت من أشكال المراوحة وتسجيل المواقف مع مراعاة خواطر الجميع، بمن فيهم الحكام الخونة والمخربون في المنطقة، وطريقة تعاطي الجزائر مع الأزمة السورية في العام 2012 تقدّم نموذجاً على ذلك.
إنَّ الموقف المبدئيّ الجزائري من هذه المسألة جدير بالدراسة، لكنّ الأهم هو البحث في تفاصيل الأدبيات التي طرأت على الدبلوماسية الجزائرية وشكلها، وهي سردية جديدة. ومع تكرارها، فإنها تقترب من مرحلة الترسخ، لتتحوّل إلى مواقف مختلفة تماماً في الآلية والسياق. وهنا تحمل الأسئلة حول مقاربة جيوسياسية جديدة للجزائر من المشروعية والجدية ما يجعلها تقفز إلى صدارة البحث المعرفي العميق، أكثر من رصد مواقف جزائرية مبدئية من القضية الفلسطينية، عابرة للأشخاص والأحزاب والتيارات السياسية، لأن فلسطين في الجزائر هي فعلاً قضية مقدّسة.