ما بعد المحكمة الدولية الخاصة بلبنان
لبنان المثقل بالكثير من التراكمات، وآخرها ركام التفجير الدامي، بانتظار نتائج التحقيق الداخلي للقضاء الوطني، يمتلك الآن فرصة استثنائية بعد فشل اللعب بورقة المحكمة الدولية.
بعد 15 عاماً من الابتزاز والاستغلال البشع لدماء الشهيد الكبير رفيق الحريري وشهداء العمل التفجيري الجبان، أصدرت المحكمة الدولية الخاصة قراراتها، ونشرت المعطيات على النحو الَّذي اطَّلع عليه العالم، وأغلقت الدائرة التي أراد البعض أن تستمرّ أكثر من ذلك، لمزيد من الأعمال الرخيصة المعدّة لوظائف التسويق السياسي مع الحراك الجاري في لبنان منذ سنوات، ومع ما شهده هذا البلد من تحولات استراتيجية رفعت مكانته، وفرضت حضوره في المنطقة والإقليم بقوة الانتصارات التي حقَّقتها المقاومة المجيدة، والتوازن الفعليّ في معادلة الصراع مع الكيان الإسرائيليّ الغاصب، وفشل المشاريع المتلاحقة الأميركية في فرض الوقائع التي تسعى لها في المنطقة.
وإن كان موضوع المحكمة الدولية الخاصّة مرفوضاً من الناحية المبدئية، شكلاً وموضوعاً، حيث جرى ترسيم صكوك البراءة للعدو الإسرائيلي خارج غرفة المحكمة، فإن هذه الحلقة من مسلسل التربّص بالمقاومة وسيناريو الاستهداف المباشر لمحاصرتها وخنقها والنيل من صلابتها لم ولن تتوقّف، ما دامت بوصلة الصراع موجهة نحو الكيان الغاصب، وما دامت المقاومة تتمسك بعقيدتها وسياستها المنحازة بالمطلق إلى الإيمان بمصلحة الوطن والشّعب وقضايا الأمّة ومستقبلها وحريتها وسيادتها.
في الأمس القريب، وبينما كانت قلوب أحرار العالم تنزف ألماً من مشاهد الدمار الهائل الذي أحدثته فاجعة التفجير في مرفأ بيروت، وبينما كان الواجب المقدّس يتطلّب تلاحم الجهود لرفع آثار التدمير، والتصدي للمهمات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والتقاط المصيبة لتحويلها مجدداً إلى فرصة للحياة والأمل، وتغليب اللغة التي تعزز صمود الناس وتبلسم جراحهم وتمنحهم الثقة والصبر والتسامي، انشغلت الأبواق السياسية والدعوية ذاتها في ضرب ما تبقى من أعمدة السيادة وملامح الاستقلال للكيان الوطني اللبناني الجامع، وأطلقت هستيريا التضليل في كلّ اتجاه، في محاولة للاستقواء بالأجنبي واستيراده للوصاية على البلد، بحجة تقصّي الحقائق والتحقيق وما شابه، وأصبحت المخابرات الأميركية في موقع المسؤول عن البلد، لتركيب المشاهد التي يراد توظيفها في الحسابات السياسيّة لهذه الأطراف داخلياً وخارجياً، وإعادة تأهيل وضعها للإمساك بمصير البلد ودفعه نحو المزيد من الخراب واليأس للتّسليم بالشّروط الغربيّة.
المطلوب بالتحديد من تيار المستقبل وحزب جنبلاط قراءة صحيحة وعميقة، ليس لقرار المحكمة التي شاركوا في صناعتها بالتفاهم مع أطراف إقليمية ودولية، وإنما إعادة استحضار لحظة التفجير، والمشاهد الذي تعمّد البعض إبعادها، والظروف التي واكبت استهداف الشهيد الكبير كرمز وصمام أمان للحالة الوطنية اللبنانية، حيث كان المشغّلون لأدوات التفجير قد أعدّوا الخطط التي يراد منها تقسيم البلد، وتحويله إلى كيانات طائفية ممزقة، ونصب خطوط التماس مجدداً على طول الجغرافيا الأهلية والسياسيَّة لمكوّناته، وفرض الوصاية الأجنبية بالأشكال والسياسات التي ستمنح الأميركي حرية التصرف وتنفيذ ما عجزت عنه قوة المارينز والاجتياح الإسرائيلي.
إنَّ المراجعة المسؤولة المطلوبة باتت ضرورية، ولها دواعيها عند التيار الحريري وحزب جنبلاط، لأنَّ الأصل وجودهم إلى جانب القوى والأحزاب الوطنية اللبنانية المدافعة عن لبنان وعروبته وسيادته، ودوره في دحر مخططات توطين اللاجئين الفلسطينيين والسوريين، وأجندة الهيمنة والتقسيم السياسي والجغرافي والديني.
وكذلك، إن الوقائع التي ارتسمت على مستوى المنطقة تتطلّب مغادرة الأوهام والتخلي عن المراهنة على الأطراف التي تتفاقم أزماتها بفعل الخسائر المتتالية وانسداد الآفاق أمامها للذهاب بالمنطقة إلى مربع الحروب المذهبية وتحديد خارطة جغرافية وسياسية جديدة.
وعلى الرغم من الأخطاء الكبرى التي وقعت في التعامل مع كارثة المرفأ ومع الحكومة المستقيلة ورئيسها، فإن الفرصة سانحة لإعادة توجيه البوصلة إلى مسارها الصَّحيح، والانفكاك من القيود والإملاءات التي تراهن على إبقاء لبنان في دوامة المراوحة في المكان والتجاذبات الداخلية وحرمانه من إعادة بناء الأولويات التي ستؤدي إلى حالة جديدة من التعاطي مع القضايا الملحَّة على المستويات كافة، وفي مقدمتها المستوى الاجتماعي والاقتصادي، والتصدي للحصار الظالم، والاتفاق على منهجية فعليّة لمحاربة الفساد والمفسدين واستئصالهم، وتوفير البيئة الجدية للتنمية والتطوير، وفتح كل الأبواب التي تخدم مصلحة لبنان.
لبنان المثقل بالكثير من التراكمات، وآخرها ركام التفجير الدامي، بانتظار نتائج التحقيق الداخلي للقضاء الوطني، يمتلك الآن فرصة استثنائية بعد فشل اللعب بورقة المحكمة الدولية لاستمرار استخدامها في بورصة الحسابات السياسية، للوقوف أمام التحديات الكبرى، والعبور مجدداً نحو إعادة تشكيل النسيج المميز للبنان، والذي يستمد منه مكانته وقوته، ويوفر كذلك الإمكانية لتشكيل الحكومة العتيدة المدعومة بالذهب الحقيقي: الجيش والشعب والمقاومة.