حكم المحكمة الدوليّة.. تبرئة حزب الله لمحاصرته؟
علِم الأميركيون والفرنسيون، وهم القيّمون بشكل مباشر على المحكمة الدولية الخاصّة بلبنان، أنّ الظرف اللبناني مناسب للعب الناعم مع حزب الله على الطريقة الفرنسية، لاستدراجه ومحاصرته.
بعد 15 عاماً من المماطلة، صدر حكم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، والذي تضمن في سطوره، على خلاف المتوقّع، تبرئةً لحزب الله كمنظمة، ولثلاثة من المتهمين المثيرين للجدل، أبرزهم السيد الشهيد مصطفى بدر الدين، القيادي البارز الراحل في الحزب. وتم توجيه التهمة إلى شخص رابع لا يوجد دليل دامغ على ارتباطه التنظيمي بالحزب، وذلك بناءً على أدلة الاتصالات الظرفية نفسها التي قدّمها الادعاء في بدايات التحقيق من دون تغيير يُذكر.
أثار هذا الحكم بالشّكل والمضمون الكثير من علامات الاستفهام والتعجّب، فإضافةً إلى عدم وجود مبرر منطقي وعملي لكل هذه المماطلة على مدى 15 عاماً، والتي كانت نتيجتها حكماً هزيلاً صادماً بأدلة ظرفية ضعيفة، أبعد المسؤولية عن حزب الله بشكل مستغرب، برز تساؤل كبير عن سبب تأجيل إصدار حكم كهذا 10 أيام بعد انفجار مرفأ بيروت، فعلى عكس كل التوقعات، اتفق الرأي العام اللبناني بمجمله على هزلية هذا الحكم وضعفه، ما انعكس هدوءاً في الشارع، وهو الشيء السهل توقعه من قبل القيّمين على المحكمة، ما ينفي مبرر التأجيل المعلن، وهو تمرير الحكم بعد خمود الغليان في الشارع اللبناني، فهل خوفاً من مثل هذا الحكم الضعيف تم التأجيل؟!
للإجابة على هذا التساؤل، علينا أن نحيط المشهد السياسي بُعيد انفجار مرفأ بيروت من جميع جوانبه، بدايةً من ارتفاع أصوات داخلية حمّلت العهد منذ اللحظة الأولى مسؤولية ما جرى، وحاولت أن تضرب الثقة بالأجهزة الأمنية والقضائية اللبنانية بشكل كامل وفوري، فبروز مطالبات بتحقيق دولي في القضية، فاستقالة الحكومة اللبنانية تحت الضغط السياسي والشعبي الكبير، فالمحاولة الفاشلة لاستهداف المجلس النيابي وشرعيته، ما يشكل خطراً على النظام اللبناني القائم بشكل عام، ويعطي مبرراً طبيعياً لتدويل الأزمة، وصولاً إلى الكباش المحلي والدولي على شكل الحكومة القادمة ودورها الذي برز خلال زيارة الرئيس الفرنسي الأخيرة إلى بيروت.
علِم الأميركيون والفرنسيون، وهم القيّمون بشكل مباشر على المحكمة الدولية الخاصّة بلبنان، أنّ الظرف اللبناني مناسب للعب الناعم مع حزب الله على الطريقة الفرنسية، لاستدراجه ومحاصرته، فأخد ماكرون المبادرة بزيارة بيروت، وهو الذي لا يمكن أن يتحرك على صعيد الملف اللبناني من دون تشاور مع واشنطن على أقل تقدير، فعمد في زيارته إلى طمأنة الحزب، وكسبِ ودّه، والاعتراف بدوره الإصلاحي ووجوده وشرعيّته الشعبية والسياسية، وعدم تبنّي موقف معارضيه الداخليين ضده.
على صعيدٍ موازٍ، اتُخذ القرار بتأجيل حكم المحكمة الدولي؛ الحكم الذي ترددت معلومات بأنه كان متشدداً حيال حزب الله والسيد بدر الدين تحديداً، ولكن انفجار المرفأ أعاد خلط الأوراق، كيف؟
برزت بُعيد انفجار المرفأ أصوات لبنانية تطالب بتحقيق دولي فيه، غامزة من قناة مسؤولية لحزب الله فيه؛ تحقيق ومحكمة على غرار تلك المتعلّقة بقضية اغتيال الرئيس الحريري، فكان لزاماً على المحكمة القائمة حالياً أن تُسقِط عن كاهلها تهمة التسييس لإلقاء الحجة على الحزب وكسب ثقته، فاقتضى الأمر أن "تبيعه" حكماً بالبراءة بشكل مدروس، على أمل أن يتلقّفه بإيجابية، ما يعطيها صك براءة من تهمة التسييس، ويعبّد الطريق المطلوب فتحه نحو تحقيق دولي في انفجار المرفأ، يسهل فيه نحت اتهام مباشر للحزب بوقوفه خلف الانفجار عمداً أو خطأ، وهذا ما سيضربه في صميم شرعيته في لبنان.
لكن الحزب قرأ المشهد بحنكة ودراية، وبقي ثابتاً على موقفه الذي اتخذه بشجاعة في أول أيام تشكيل المحكمة، وهو الموقف المتجاهل لوجود المحكمة المسيّسة من أساس، حتى لو كان حكمها "متساهلاً" تجاهه، وهذا ما برز في خطاب الأمين العام السيد حسن نصرالله، الذي كرر الموقف الثابت منذ اليوم الأول لتشكيل المحكمة، وفي حديث النائب حسن فضل الله الأخير إلى "الميادين"، ما دمّر هذا المسار وأفقده توازنه وأسس السير به.
وكدليل إضافي على ما تقدم، أشير إلى تصريح الخارجية الفرنسية منذ أيام، والذي شدد على ضرورة استمرار عمل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في قضيتَي محاولتَي اغتيال النائب مروان حمادة والرئيس إلياس المر، في إشارة إلى إمكانية اللعب مجدداً بهذه الورقة بعد رصد وتخطّي حزب الله للفخ المنصوب في الحكم بقضية الرئيس الحريري.
في الوقت نفسه، وبشكل متكامل، اعتقدت بعض الأوساط الغربية، والأميركية بشكل خاص، أن الحكم الهزيل للمحكمة الدولية بشأن حزب الله، سيعتبره الأخير خطوة أميركية دولية إيجابية بعد استقالة حكومة حسان دياب، وأنه سيقابل هذه الخطوة بموقف إيجابي سياسي عملي تجاه المجتمع الدولي، تكون نتيجته بعد التباحث مع الفرنسيين قبوله ببعض الشروط في شكل الحكومة العتيدة، وأبرزها أن تكون حيادية لا تمثيل لأي طرف حزبي فيها، كمقدمة لحل الأزمة اللبنانية واستقدام الدعم الدولي للبنان، ما يعني عدم تمثيل الحزب فيها بشكل أساسي. وهنا الفخ المثنّى الذي أرادوا إيقاع حزب الله فيه، ودعكم من الكلام الفرنسي المعسول، فهو كلام لم يُتَرجَم عملياً على الأرض حتى الآن، ولن يُتَرجَم.
يتمثل الجزء الأول من هذا الفخ في أنه لو افترضنا وجود شخصيات حيادية حقيقية في لبنان، واستطعنا تشكيل حكومة منهم، فسيكون هؤلاء من دون غطاء وسند سياسي حقيقي، وسيكونون مكشوفي الظهر أمام الضغوط الأميركية الهائلة التي ركّعت زعماء دول كبرى، حتى إنها ركّعت شخصيات ذات خلفية حزبية في لبنان نفسه.
وبطبيعة الحال، سيكون وزراء حكومة كهذه أمام خيارين لا ثالث لهما، الاستقالة تحت الضغط الأميركي أو الرضوخ لهذا الضغط، عبر تنفيذ سياسة واشنطن في لبنان بحكمة ونعومة، مع حرص فرنسي على عدم اعتماد سياسة المواجهة المباشرة والقاسية مع الحزب.
أما الجزء الثاني من الفخ، فيتمثل في عجز حزب الله، في حال تشكيل حكومة كهذه، عن تحميل أي طرف لبناني مسؤولية تماهيها سياسياً وعملياً مع الأميركيين، بالتالي انسداد كل قنوات الحوار المحلي حولها، فالجواب الذي سيتلقاه من جميع معارضيه المحليين: "لا علاقة لنا بالأمر، فهؤلاء مستقلون"، وسيكون مجبراً في هذه الحالة على المواجهة، وربما محاولة إسقاط الحكومة بالمواجهة الشعبية في الشارع، لعجزه عن إسقاطها قانونياً في مجلس النواب، ما سيضعه في موقع المتهم بعرقلة الحل في لبنان، وسيدخل في معضلة يمكن أن تذهب بالوضع العام حينها إلى مجهولٍ مفتوح على كل الخيارات، كالعسكرة والتدويل.
هنا، ومرة جديدة، قرأ الحزب حقيقةً خطورة هذا المطلب الذي تبنته أطراف لبنانية بدعم أميركي، ورسم خطين أحمرين أمام أي تشكيلة حكومية مزمعة: "لا حكومة حيادية، ولا حكومة من دون تمثيله فيها"، بعد أن حسم مع حلفائه أمر الخط الأحمر الثالث: "لا انتخابات نيابية مبكرة".
في ظلِّ ما تقدم، لبنان إلى أين؟
بعد حسم الحزب وحلفائه لخياراتهم، ورسمهم خطوطًا حمر متفق عليها لحلِّ الأزمة، أعلن رئيس مجلس النواب نبيه برّي ترشيحه لسعد الحريري رئيسًا للحكومة العتيدة، مشدّدًا على ضرورة قيام حكومة جامعة يتشارك فيها الجميع مسؤولية انتشال البلد من أزمته، وهذا ما أراده حزب الله منذ بداية انتفاضة ١٧ تشرين، برفضه المستميت لاستقالة الحريري آنذاك، وبإصراره على عودة الحريري بعد استقالته أو من يسمّيه لتشكيل حكومة توافقية وقتها، وجوبِهَ الأمر حينها بعراقيل ما زالت نفسها تواجه التوافق مع الحريري لتسميته اليوم، أبرزها شروطه غير الواقعية، وعدم الإكتراث السعودي بدعمه إلا بعد التزامه بعدد من الشروط -على رأسها مواجهة حزب الله- والرفض المستجد لفريق الرئيس عون والتيار الوطني له.
إن شروط الحريري وحيثيات الفيتو السعودي عليه، التي تتماشى مع بعض الشروط الدوليّة لدعم حكومةٍ مفترضةٍ يرأسها عبر صندوق النقد الدولي (الأمر الذي يشير إلى تنسيق بين الطرفين السعودي والأميركي بهدف العرقلة)، بالإضافة لرفض التيار الوطني الحر له حتى الآن، تضع العصي في دواليب تسميته على المدى المتوسط، ما سيترك لبنان لفترة طويلة نسبياً - في رأيي - تحت حكم حكومة تصريف أعمال يستمر فيها الوضع الاقتصادي المعيشي في لبنان بالانحدار، مع اعتقادي، وفقاً لمعلومات، بأن حزب الله لن يكرر تجربة حكومة اللون الواحد في ظل هذه الظروف، مع التذكير بالموقف الدولي الرافض لمساعدة لبنان من دون تشكيل حكومة "إصلاحية تلبي تطلعات الشعب"، وهذا المفهوم هو مفهومٌ واسع جداً يصعب تفسيره في بلد متشعّب سياسياً كلبنان.
في ظلِّ هذا الواقع، أرى أنَّ الحزب سيستخدم ورقة الصمود الأخيرة التي يخبّئُها للأيام الحالكة، وهي فتح الحدود مع سوريا لإدخال الغذاء والدواء والنفط القادم من حلفائه في الشرق، لمنع سقوط الأمن الاجتماعي في لبنان بشكل عام، وفي بيئته بشكل خاص. وعندها سنعلم أن أمد الأزمة سيطول، وسيدخل في المجهول غير القابل للتوقع بسهولة، حتى موعد الانتخابات النيابية المقبلة بعد سنتين.