اضطراب الشخصيَّة الفلسطينيَّة أمام التّطبيع الإماراتيّ
على الرغم من قتامة المشهد الفلسطيني وسوداويته، فإننا ما زلنا نمتلك القدرات والإمكانيات والذكاء على المواجهة، والقدرة على خلق فرص للتغير لصالح قضيتنا العادلة.
بعد أن تم الإعلان عن التطبيع الرسمي للعلاقات الإماراتية الإسرائيلية برعاية أميركية يوم الثلاثاء 13 آب/أغسطس، من خلال تغريدات في موقع "تويتر"، خرجت علينا القيادات الفلسطينية الرسمية والفصائلية والحزبية وغيرها بالشجب والاستنكار والرفض، وبنبرة الصدمة والذهول أمام هذا المشهد الذي وصفته بالخيانة للقضية والقدس والمقدسات، ممارسةً بذلك اضطراب الشخصية التمثيلي أو ما يسمى بالدراما السياسية، القائمة على الإنكار بعلمها المسبق عن وجود التطبيع، وصدمتها وذهولها من حدوثه، على الرغم من وجود العديد من التقارير الصّحافية والمشاهدات الشخصية لطائرات، ولأشخاص بالزي الخليجيّ، ولسيارات بلوحات إماراتية (ودول عربية أخرى)، تجوب شوارع تل أبيب على مدار السنوات الماضية.
كما أنَّ مشهد خروج الفلسطينيين إلى الشوارع والشاشات والتطبيقات مصدومين من التطبيع، ما هو إلا دراما سياسية - مُجتمعية، نتيجة لعقدة الضحية التي عشَّشت ونمت داخل عقولنا ونفوسنا، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من ثقافتنا، والتي، للأسف، لا ترتقي إلى واقع العالم اليوم، فنحن ما زلنا نعيش في ثمانينيات القرن الماضي، ولا نتحدَّث لغة العالم اليوم، بل نتحدث لغة الأمس التي هجرتها الشّعوب، واتّجهت نحو عالم جديد ولغات جديدة، فأصبحنا معزولين داخل فقاعة من الدراما المجتمعيّة المنسوخة من دراما المسلسلات المكسيكيّة والتركية التي عشقنا مُتابعتها، وأصبحنا نمارسها كطقس سياسيّ للردّ على الأحداث السياسيّة.
يجب علينا أن نتوقَّف عن مُمارسة دراما عقدة الضحية، والتوقف عن لوم الآخرين على المواقف التي نتسبّب بها لأنفسنا، وأن نتحمَّل مسؤوليّة أفعالنا، فنحن من أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، والتطبيع الإماراتي ما هو إلا نتيجة لضعفنا وإدماننا على التباكي للدول والمؤسَّسات الدولية للدفاع عنا وعن قضايانا.
في المقابل، تقوم تلك الدول والمؤسَّسات بتقديم الأموال والهبات من أجل إسكاتنا والتخلّص من إزعاجنا. وفي النتيجة، أصبحنا تابعين وفاسدين أخلاقياً وسياسياً واقتصادياً، لا نمتلك القرار لأبسط الأمور في حياتنا اليومية، والتي وصلت إلى الثقافة والمناهج التعليمية التي قمنا بتغييرها بما لا يمسّ الاحتلال ووجوده.
إنّ التطبيع الإماراتي ما هو إلا نتيجة حتمية ومتوقعة منذ زمن، فمنذ أن أصبح نضال الشعب الفلسطيني للحرية والكرامة الإنسانية تحت رحمة شركة "السلطة الفلسطينية" للخدمات الأمنية والإدارية لإدارة أكبر سجن مفتوح في العالم، وتحوَّلت منظمة التحرير وخارجيتها إلى شركة للسياحة والسفر والاستجمام، توزّع الامتيازات لحفنة من أصحاب النفوذ الذين ينفقون أموال الضرائب للشعب القابع داخل سجني الضفة وغزة، فضلاً عن الهبات التي تُمنح باسم الشّعب الفلسطينيّ وقضيّته من أجل بذخهم وترفهم.
كما أنَّ التطبيع الإماراتي ما كان إلا نتيجة حتمية لعمليات الهندسة الاجتماعية الممنهجة التي يتعرَّض لها سكان العالم، كجزء من المنظومة الإمبريالية الرأسمالية، من خلال تشويه صورة وشيطنة أي دولة/ حركة/ مجموعة/ أفراد يغردون خارج سربهم أو يقفون في طريقهم. وفي المقابل، تلميع وتحسين صورة كل من ينتمي إلى تلك المنظومة. ونحن نرى اليوم كيف تحول الفلسطينيون في أذهان العالم من أصحاب الحق والأرض والتاريخ إلى إرهابيين همجيين ظالمين. أما الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي الأوروبي الأبيض الغاشم، فتحول إلى صورة شعب محب للسلام وصاحب الحق في الدفاع عن نفسه أمام "العمالقة" الفلسطينيين المحتلين.
لقد كانت عملية إعادة تشكيل صورة فلسطين والفلسطينيين الممنهجة في أذهان الشعوب، وشيطنتهم أو حتى طمس وجودهم، عملية طويلة بدأت منذ سنوات طويلة، وما زالت مستمرة، من خلال السيطرة وتوجيه وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية والمناهج التعليمية والمؤسسات الدينية حول العالم.
لقد تمَّ محو فلسطين من خرائط العالم وكتب التاريخ في المناهج التعليمية، وتمت مهاجمة الصوت الفلسطيني وطمسه من منصات الإعلام التقليدي والإعلام الاجتماعي، حتى وصل بنا الحال إلى أن هناك شعوباً لم تسمع بفلسطين قط.
إنَّ حالة فقدان الأمل واليأس التي تسيطر علينا، من خلال نمط تفكيرنا في العجز عن القيام بأيّ شيء، وبأنه لا يوجد لنا خيارات أو بدائل أو حلول، تزيد عزلتنا، وتهدّد طمس وجودنا وانقراضنا. وعلى الرغم من قتامة المشهد الفلسطيني وسوداويته، فإننا ما زلنا نمتلك القدرات والإمكانيات والذكاء على المواجهة، والقدرة على خلق فرص للتغير لصالح قضيتنا العادلة، من خلال الخروج من عزلتنا وفتح عقولنا وقلوبنا لشعوب العالم.
وعلى الرغم من خصوصية الحالة الفلسطينية، فإنَّ هناك العديد من الشعوب حول العالم يعانون من ظلم مشابه من المنظومة نفسها التي تشيطنهم وتهدّد وجودهم، من مثل - على سبيل الذكر وليس الحصر - السكّان الأصليين لأميركا الشمالية (السكان الأصليين للولايات المتحدة الأميركية وكندا) والعديد غيرهم من دول وشعوب وجماعات حول العالم.
إنَّ التطبيع الإماراتي ما هو إلا نقطة في بحر الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني، والذي سيستمر ما دمنا ضعفاء خاضعين. لذلك، علينا الوقوف للاستعداد سوياً للمواجهة القادمة مع منظومة الظلم، والتي تتطلّب منا الكثير من العمل، لكي نرتقي إلى مستوى الندّ في المواجهة.
يجب علينا أن نتعاون في ما بيننا لترتيب بيتنا الداخلي، من خلال إعادة تشكيل الخطاب والصوت وصورة الفلسطيني الحقيقية، لتتكلَّم بألسنة العالم اليوم، ومن خلال التّواصل مع ألم الشّعوب حول العالم، والإيمان بأنَّ الحرب ضد الظلم هي حرب واحدة.
يجب كسر احتكار قضايانا في أطر قبلية وعرقية ودينية، لتصبح قضايا إنسانية تجتمع مع باقي قضايا الظلم، لتكون ثورة واحدة نحو الحرية الحقيقية والعدالة الإنسانية لجميع المظلومين حول العالم، وإلا سننقرض ونختفي كما اختفت شعوب وقبائل كثيرة من قبلنا لم نسمع عنها قط، فالتاريخ لا يُكتب بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، بل يكتب بشجاعة الأقوياء وتضحياتهم.