من قصر الصنوبر.. الاستعمار يُبعث من جديد
لمحاولة فكّ رموز شيفرة المشهد اللبناني المُرتبك، لا بدَّ من الرجوع إلى أصل الحكاية وبداية النّهاية، لندرك منبع نهر الأحزان اللبناني.
وقف الجنرال هنري غورو - المندوب السّامي الفرنسيّ - على شرفة قصر الصنوبر في بيروت في الأول من أيلول/سبتمبر 1920، ليعلن قيام "دولة لبنان الكبير". وبعد قرن من الزمن، في السادس من آب/أغسطس 2020، وقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في المكان نفسه على باب قصر الصنوبر، بعد يومين من انفجار بيروت، ليُعلن أنَّ "دولة لبنان الكبير" لم تُعد صالحة للحياة، داعياً إلى إقامة "دولة لبنان الحديث"، وكأنَّ الاستعمار يُبعث من جديد، ولكن هذه المرة بطلب من بعض اللبنانيين الذين هتفوا على باب قصر الصنوبر باللغة الفرنسية أمام ماكرون، مُطالبين بعودة الانتداب الفرنسي على لبنان، بالتزامن مع توقيع عريضة إلكترونية تدعو إلى وضع لبنان تحت الحماية الفرنسية، في مشهد سياسي مقتبس من مسرح اللامعقول، جامعاً بين المأساة والملهاة، ودامجاً الجد بالهزل، ومازجاً التعقُّل بالتهكُّم.
ولمحاولة فكّ رموز شيفرة المشهد اللبناني المُرتبك، لا بدَّ من الرجوع إلى أصل الحكاية وبداية النّهاية، لندرك منبع نهر الأحزان اللبناني، على أمل تخيّل نهاية سعيدة لرواية حزينة. وقد كان لسكان قصر الصنوبر الفرنسيين، من الجنرال غورو إلى الرئيس ماكرون، على مدار قرن كامل، دورٌ في صناعة التراجيديا اللبنانية.
قبل الفتح الإسلامي، كان لبنان الحالي يتبع ولاية سوريا الواقعة تحت حكم الإمبراطورية البيزنطية الرومانية قرابة 700 سنة، ثم دخلت الشام ومعظم بلاد العرب تحت كنف دولة الخلافة الإسلامية، وصولاً إلى الخلافة العثمانية، فتم توزيع أراضي لبنان الحالية على ولايتي دمشق وطرابلس حتى العام 1861، عندما أُقيمت "مُتصرفية جبل لبنان" بعد الحرب الأهلية بين المسيحيين الموارنة والدروز، حيث تدخلت فرنسا مدعومة ببعض الدول الأوروبية لدى الدولة العثمانية، وضغطت عليها لإقامة "مُتصرفية جبل لبنان" بإدارة منفصلة تتبع السلطة المركزية في الأستانة، وتعيين حاكم مسيحي غير لبناني بموافقة فرنسا، لتكون المُتصرفية نواة دولة لبنان المُعاصرة، ولتُنصّب فرنسا نفسها حامية لنصارى المشرق العربي عامة، ونصارى لبنان على وجه خاص، وليكون الكيان الجديد ركيزة للنفوذ الثقافي والسياسي الفرنسي في لبنان والمشرق العربي كأداة للاستعمار وتمهيداً للاحتلال.
ظلَّت متصرفية جبل لبنان نواة الدولة اللبنانية المُرتقبة منذ إنشائها في العام 1861، بسيطرة مسيحية واضحة ورعاية فرنسية متزايدة، حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، وهزيمة دولة الخلافة العثمانية وتفككها، وتوزيع أملاكها في المشرق العربي بين بريطانيا وفرنسا بحسب اتفاقية "سايكس بيكو"، فكانت سوريا ولبنان من نصيب فرنسا، ليدخل الجيش الفرنسي دمشق بعد معركة ميسلون في تموز/يوليو 1920، ويتوجَّه في العام نفسه إلى بيروت، ويتخذ من قصر الصنوبر مقراً له، ثم مقراً للمندوب السامي الفرنسي في لبنان، ويُعلن من شرفته إقامة "دولة لبنان الكبير" في الأول من أيلول/سبتمبر 1920، ويحدد عاصمتها "بيروت"، ويرسم علمها "المأخوذ من علم فرنسا"، ويزيد مساحة المتصرفية من 3500 كيلومتر مربع إلى أكثر من 10 آلاف كيلومتر مربع، بعد ضم مدن الساحل والبقاع وغيرها، لتوضع الدولة الجديدة تحت الانتداب الفرنسي، بغطاء دولي من "عُصبة الأمم"، في إطار شرعنة الاحتلال وتجميله دولياً، فكانت الدولة على خُطى المتصرفية ركيزة للاستعمار الفرنسي ونفوذه الثقافي والسياسي، وبنظام سياسي وضعت فرنسا أُسسه الطائفية العنصرية.
لم يتغيَّر النظام السياسي الطائفي بعد استقلال لبنان في العام 1943، فبقيت دولة لبنان بعد الاستقلال بمساحتها وحدودها وعلمها وتفاصيل نظامها السياسي تجسيداً واضحاً لإرادة المستعمر الفرنسي في فصل لبنان عن عمقه ومحيطه العربي السوري، بخلاف إرادة معظم اللبنانيين، ولكن الأمور بدأت تتغير مع بدء الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975، والتي غيّرت موازين القوى على الأرض، ما ساهم في الوصول إلى اتفاق الطائف في العام 1990، وصياغة عقد لبناني جديد ساوى بين المسيحيين والمسلمين في توزيع السلطات والمسؤوليات، ابتداءً من قمة السلطة، مُمثلة برؤساء الجمهورية والوزراء والنواب، نزولاً إلى أدنى السلطات والمسؤوليات، بعد أن كانت السلطة مُركّزة بيد رئيس الجمهورية المسيحي الماروني.
ولكن وجود الجيش السوري في لبنان وبروز قوة حزب الله في إطار مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، أحدثا خللاً في هذا التوازن لم يُرضِ قوى محلية وإقليمية ودولية، فكان اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في العام 2005 فُرصة لإخراج السوريين من لبنان، واعتقد البعض أنَّه فرصة لإضعاف تحالف المقاومة بالمطالبة بنزع سلاح حزب الله، لتعديل التوازن الداخلي، وتساوق مع المشروع الصهيو-أميركي لضرب المقاومة، من دون نجاح، فجاء انفجار بيروت الكبير الأخير ليُجدد المطالبة بنزع سلاح حزب الله في الإطار نفسه.
تجديد المُطالبة بنزع سلاح المقاومة بعد انفجار بيروت لا يحل مشكلة لبنان الكبيرة، ولا يُنهي مأزقه العميق، بل ينزع من اللبنانيين عامل القوة الوحيد الذي منع، ولا زال، استباحة لبنان الأرض والشعب إسرائيلياً، بعد طرد المقاومة للاحتلال في العام 2000، ثم هزيمة جيشه في العام 2006، ويُجرّد اللبنانيين من القوة التي هزمت قطعان المتوحشين داخل الحدود اللبنانية، فولّوا الأدبار هاربين لا يلوون على أحد، وحالت المقاومة دون تحويل نساء لبنان إلى سبايا لعصابات داعش وأخواته.
إنَّ المُطالبة باستدعاء الاستعمار الفرنسي بعد فقدان الشعب اللبناني الثقة بنظامه السياسي والطبقة الحاكمة والأمل في التغيير، لن تحل مشكلة لبنان أو تخرجه من مأزقه، بل ستكون ضرباً من العبودية الطوعية، بحسب نظرية إيتيان دو بوليسيه، ونوعاً من القابلية للاستعمار، بحسب قول مالك بن نبي، وقد يكون أحد أشكال الاستحمار، كما أوضح علي شريعتي، وهذا ما لا يرضاه الشعب اللبناني على نفسه بالطبع، مهما بلغ السخط والغضب من النخبة السياسية الحاكمة والنظام السياسي الطائفي وأوضاعه الاقتصادية المُنهارة، التي أوصلت لبنان إلى كارثة انفجرت في بيروت، وانفجرت معها براميل الفساد والتقصير والإهمال المتوارثة من عهود النظام السياسي الطائفي المُتعاقبة، والمصنوعة على عين فرنسا الاستعمارية، منذ إقامتها "متصرفية جبل لبنان"، وحتى إعلان "دولة لبنان الكبير"، وصولاً إلى محاولة ماكرون إنشاء "دولة لبنان الحديث".
إنَّ حلّ مشكلة لبنان والخروج من مأزقه لن يكون باستدعاء الانتداب الفرنسي، ونفخ الروح في جثة الاستعمار الهامدة، ليُبعث من جديد على أنقاض حُطام بيروت، ولن يكون بالمُطالبة بنزع سلاح المقاومة، مصدر قوة وعزة وكرامة لبنان الدولة والشعب، وهو إن تمَ لن يزيد لبنان إلا ضعفاً وفقراً وتبعية وتفرّقاً. الحل يبدأ بالتمسك بالاستقلال الوطني في إطار الانتماء إلى عمقه العربي، وتثبيت عوامل القوة، وأهمها الوحدة والمقاومة والنهضة.
أمّا زعماء الطوائف الذين جلسوا مع ماكرون في قصر الصنوبر يشكون إليه فساد زمانهم، وما لزمانهم فساد سواهم، ويهجون أمامه طائفية بلدهم، وما لبلدهم طائفية غيرهم... ذلك أنَّ الفساد والطائفية من صُنع أيديهم، بعد أن غرسها الفرنسيون في لبنان، وسقوها من دماء شعبه بعد أن ارتوى منها الفرنسيون... فشكواهم إلى ماكرون الفرنسي، حفيد غورو صانع نكبتهم، كشكوى الفلسطينيين حالهم إلى جونسون البريطاني، حفيد بلفور صانع نكبتهم، وحالهم وهم يستمعون إلى نصائح ماكرون، كمن يستمع إلى موعظة الثعلب في قصيدة "الثعلب والديك" لأمير الشعراء أحمد شوقي، ولكن من دون أن يعي خاتمتها: "مُخطئٌ منْ ظنَّ يوماً أنَّ للثعلب ديناً".