العقل الأميركي وعقيدة "القدر الحتمي" التي تفسّر سياسات واشنطن
ركيزتان أساسيتان تشكلان الإيديولوجية الأميركية الحالية وتشكّلان هُويتها، لكن أميركا تخفي هذه الهوية لأغراض الدعاية وتحسين صورتها ودعم قوتها الناعمة في العالم.
كتب رفائيل باتاي كتاباً بعنوان "العقل العربي"، حاول فيه أن يصف العقلية السائدة لدى العرب بطريقة فيها سطحية متعمدة، بل ومضللة في كثير من الحالات، ما يعطي صورة سلبية بشكل كبير عنهم.
لكلّ مجتمع في العالم شرائحه المتخلّفة، وأن يقدّم الكاتب تحليلاً فقط لهذه الشرائح المتخلفة، ويعمّم ويدّعي أنها تمثل الشخصية الوطنية لهذا المجتمع، هو أمر غير صادق وبغيض عمداً، ولكنَّ هذا النوع من العدوان الفكريّ له دور مهم في خدمة الأجندة الإمبريالية الأميركية وتبرير الفظائع التي تعدّ نتيجة ثانوية طبيعية للتوسّع الإمبريالي الأميركي.
لن أردّ على السيد باتاي بمحاولة وصف العقل الإسرائيلي، فـ"إسرائيل" هي مجرَّد ظفر تافه لعقل أكبر وأكثر خطورة يجب تحليله وفهمه، وهو العقل الأميركي.
العقل الأميركيّ هو العقل الجماعيّ لشعب الولايات المتحدة الأميركية، التي تعدّ مشروعاً استيطانياً أنجلو-بروتستانتياً ناجحاً، بدأ في أوائل القرن السابع عشر من قبل المستوطنين الاستعماريين البريطانيين تحت العلم البريطاني.
بعد أكثر من قرنين من الاستعمار البريطاني في أميركا الشمالية، تمرّد المستعمرون الأنجلو-بروتستانت على الحكم البريطانيّ، وحصلوا على الاستقلال في العام 1776، وتأسّست جمهورية الولايات المتحدة الأميركية، التي بدأت بـ13 ولاية في الشّرق، ثم توسَّعت لتصل إلى حدود الدولة التي نعرفها اليوم منذ منتصف القرن التاسع عشر.
تقدَّم الاستيطان الاستعماري (قبل الاستقلال عن بريطانيا وبعده) بالعنف ضدّ السكّان الأصليين لمصادرة أراضيهم وتحييد خطرهم. وعادة ما يشعر الأشخاص العاديون بوجود رادع داخلي ضد أخذ ما ليس لهم، أو يشعرون ببعض الشك الذاتي عندما لا يكونون في منزلهم، أو عندما يكونون ضيوفاً في أراض أجنبية. ورغم ذلك، إنّ السطو المسلَّح للأراضي الأميركية من قبل الأنجلو-بروتستانت (تماماً مثل الفتح السابق لأجزاء أخرى من نصف الكرة الغربي من قبل الأوروبيين اللاتينيين)، استمرَّ من دون ذنب ملحوظ أو شكّ في الذات، إذ تم تبرير هذه السرقة من خلال العقائد العرقية والدينية الصلبة.
إنَّ العقيدة العنصرية هي سيادة البيض، وهي اعتقاد بأنَّ السكان الأصليين في أوروبا الغربية لهم الحقّ في السيطرة والحكم على الآخرين، والعقيدة الدينية هي المسيحية، وهي تعطي المسيحيين الحقّ في إخضاع الكفار الذين يبغضهم الله.
اندمج هذان المذهبان معاً في ما يُعرف في تاريخ الولايات المتحدة باسم "القدر الحتمي" "Manifest Destiny" ، وهو مصطلح صيغ في العام 1845، ومفاده الاعتقاد بأنَّ الولايات المتحدة لها الحقّ في توسيع هيمنتها ونشر نموذجها عبر قارة أميركا الشّمالية بأكملها، ثم توسعت الإيديولوجية العنصرية والدينية، وشملت في ما بعد نصف الكرة الغربي بحلول أواخر القرن التاسع عشر. وبعد الحرب العالمية الثانية، امتدّت لتشمل بقية العالم.
كانت هذه هي العقيدة نفسها التي برَّرت استعباد الأفارقة، الَّذي انتهى قبل عدة أجيال فقط، وحلّ محلّه نظام الفصل العنصريّ القائم إلى الآن، والَّذي تمّ توجيهه ضدّ جميع الأشخاص من أصول غير أوروبيّة.
هذه الإيديولوجيّة المزدوجة هي حجر الزاوية الَّذي تأسَّس عليه العقل الأميركي. يدين الأميركيون الأنجلو-بروتستانت بحياتهم ونجاح اقتصادهم ومستوى المعيشة المرتفع لهذا الاعتقاد. وبسبب ذلك، نما ولاء مطلق وارتباط عاطفي قوي اعتماداً على هاتين القيمتين اللتين تشكلان "القدر الحتمي": تفوّق العرق الأبيض والمسيحية.
إنَّهما الركيزتان الأساسيتان اللتان تشكلان الإيديولوجية الأميركية الحالية وتشكّلان هُويتها، ولكنها تخفي هذه الهوية لأغراض الدعايات وتحسين صورتها ودعم قوتها الناعمة في العالم، فمنذ موجة العولمة التي تلت الحرب العالمية الثانية، قامت وسائل الإعلام الأميركية (هوليوود، وسائل الإعلام الإخبارية، المسلسلات، البرامج الحوارية...)، والأدبية (العلوم الاجتماعية والروايات...)، وحتى المؤسّسة السياسية الرسمية (باستخدام أشخاص من أصل غير أوروبي، مثل باراك أوباما وكوندوليزا رايس وكولن باول)، بعمل خبيث، ولكن جيّد للغاية، في التعتيم على القيم الحاكمة فعلياً، كاستراتيجية تسويقية لتقدم الإمبراطورية الأميركية. وقد وقع الكثيرون ضحية هذه الدعاية.
في ما يتعلَّق بتفوّق العرق الأبيض على وجه التحديد، فإنَّ المجتمع الأميركيّ يحكمه حالياً نظام فصل عنصري بحكم الأمر الواقع "دي فاكتو"، يصنّف الناس إلى أبيض أو غير أبيض. يُنظر إلى الأبيض على أنه حليف، بينما يُنظر إلى غير الأبيض على أنّه عدوّ لا ينبغي أن يتمتَّع بالحرية، وأن يخضع للمراقبة المستمرّة، لتجنّب العداء المفترض تجاه نظام الفصل العنصريّ.
يتمّ استخدام فرضية التفوّق الأبيض (المقبولة ضمنياً في المجتمع الأميركي العنصري بطبعة ونشأته)، ويتم انتقاء المعلومات التاريخية بعناية (تضخيم إنجازات البيض الأوربيين عبر التاريخ وإنكار إنجازات غير البيض)، ليتمّ استخدامها كدليل داعم لتبرير الظلم العرقي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الشائعة في المجتمع الأميركي.
النخبة الأميركية تلمّح، من خلال وسائل الإعلام والتعليم، ومن خلال تفاعلات الشرطة مع الجمهور، إلى أنَّ الأشخاص غير البيض هم بطبيعتهم غير أذكياء، ومتخلّفون، ولديهم ميول إجرامية. وبالتالي، فإنَّ إبقاءهم خاضعين في مكانة منحطَّة، والتمييز ضدّهم، أمران مبرران.
العقل الأميركي هو عقل أبيض متعصّب مع تحيّز مسيحيّ مفرط. لقد استخدم هذا العقل الموارد الهائلة والتكنولوجيا المتاحة له لتحقيق هدفه، وهو إخضاع العالم وموارده الطبيعية وشعوبه للحضارة الغربية الحديثة. وبالطبع، اعتُبر الأميركيون الأنجلو بروتستانت على قمَّة هذه الحضارة.
كم عدد الحكام والسياسيين والدبلوماسيين حول العالم الذين يتعاملون مع الولايات المتحدة ويعرفون طبيعة العقل الأميركي وأهدافه العالمية؟ أو كم منهم يعرف ويتجاهل؟ العقل الأميركي هو عقل فاشي لا يقل خطورة عما تعلَّمناه عن هتلر وألمانيا النازية.
إنّه عقل ليس لديه أي ندم في التجول حول العالم، وإسقاط الحكومات المقاومة، وقتل الناس، وتعذيب المنشقين، وإخضاع الناجين له. المشروع الأميركيّ ليس أقلّ خطورة من المشروع النازي مع الفظائع المماثلة التي ارتكبت، ولا زالت، ضد السكان الأصليين الأميركيين والأفارقة، الذين يعدّون من أكثر من يتمّ تجريدهم من إنسانيتهم من قبل حكومة الولايات المتحدة حالياً، من خلال التفاعلات مع الشرطة ونظام العدالة الجنائية العنصري والرفض والتهميش الاقتصادي والاجتماعي.
الفرق بين الولايات المتحدة الفاشية وألمانيا النازية ليس نوعياً. هم بالقدر نفسه من الإجرام والخطورة على العالم. وعلى عكس ألمانيا تحت الحكم النازي، لم تواجه الولايات المتحدة بعد عدواً قوياً يفضح طبيعتها الإجرامية والشيطانية، ولكن بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، تم الكشف عن وجهها الحقيقي، ولو جزئياً، وتضرَّرت صورتها الإيجابية الخادعة كثيراً.
ورغم ذلك، لا يوجد حتى الآن ما يمكن تسميته بحركة عالمية جادة مناهضة للولايات المتحدة، يدعمها عامة الناس في جميع أنحاء العالم. ما زلنا في مرحلة لا يوجد فيها سوى مفكّرين مشتّتين هنا وهناك، يحذرون من خطورة وجود العقل الأميركي الإيديولوجي الإجرامي مسؤولاً عن قيادة العالم.