أسئلة ما بعد الصدمة.. من يعيد بناء مرفأ بيروت؟
ثمة أسئلة لن يكون بإمكان الحكومة اللبنانية وبقية المكونات السياسية تجاهلها في المستقبل القريب. بمعزل عن التحقيق الرسمي بملابسات الانفجار وبانتظار صدوره عن الجهات الرسمية سيكون أهم تلك الأسئلة: من يعيد بناء المرفأ؟
آجلاً ستجد الحكومة اللبنانية نفسها أمام سؤال كيفية إعادة بناء مرفأ بيروت ومن يتولى هذه المهمة.
يبرز هذا السؤال بإلحاح لأسباب عدة، منها أن المرفأ يعدّ الشريان الحيوي الذي يغذي لبنان. لذا فإن إعادة بنائه ليست مسألة ترف أو قضية ثانوية تحتمل التأجيل.
يعتبر المرفأ ركيزة أساسية للاقتصاد اللبناني، حيث يؤمن موارد للخزينة من خلال الرسوم الجمركية وحركة رسو السفن ويسهم إلى حد كبير في تحريك العجلة الاقتصادية للبنان. كما يلعب دوراً أساسياً في عملية الاستيراد والتصدير إذ يتعامل مع نحو 300 مرفأ عالمي.
وعليه فإن اختيار الجهة والطريقة التي ستعتمد لإعادة التأهيل من شأنها أن تخلّف نقاشاً سياسياً سيادياً سبق أن كان مطروحاً قبل أن يبدده عصف الانفجار الذي جمّد اللبنانيين وتركهم تحت وقع الصدمة.
أسئلة ما بعد الصدمة لن تقتصر على ذلك. ستعيد الحادثة تفعيل الأسئلة التي سبق أن أثيرت حول خصخصة المرفأ والسبل المثلى لاستثماره. وبالتالي إن أي توّجه ستعتمده الحكومة سيكون هناك من يعارضه. يمكن اختصار أهم التوجهات المطروحة في هذا الإطار انطلاقاً من ثلاثة خيارات: أن يبقى المرفأ مملوكاً للدولة اللبنانية أو التوجه إلى خصخصته بالشراكة بين القاطعين العام والخاص، أو بيعه بالكامل. في الخيار الأول يتعيّن على الحكومة الاستدانة واللجوء إلى جهات خارجية مثل صندوق النقد الدولي مثلاً أو مؤتمر "سيدر" أو إلى الصين، فمن المعروف أن الدولة اللبنانية مفلسة وتمر في أسوأ أزمة اقتصادية ومالية في تاريخها.
من بين الخيارات المطروحة ثمة حلول أخرى مثل إعادة تأهيله واستثماره على قاعدة (B.O.T)، أي نظام التشييد والتشغيل ونقل الملكية. هنا تبرز الصين كطرف أساسي لديه مصلحة واهتمام بمثل هذا الاستثمار الذي يتقاطع مع مشروعها الطموح، مشروع طريق الحرير (مبادرة الحزام والطريق).
يتمتع مرفأ بيروت من هذه الناحية بموقع استراتيجي على هذا الطريق، ويعدّ منافساً كبيراً لمرفأ حيفا الذي أظهرت الصين رغبتها باستثماره قبل أن تحاول أميركا عرقلة مثل هذا التعاون الذي بإمكان لبنان أن يستفيد منه.
وكان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو زار الأراضي المحتلة في فلسطين في أيار/ مايو المنصرم مطالباً بوضع حدّ للاستثمارات الصينيّة، ومن ضمنها مواقع تعتبرها واشنطن حسّاسة للجيش الأميركي، مثل ميناء حيفا، الذي ترسو فيه سفن عسكرية أميركية بشكل دوري.
وكانت الشركات الصينية فازت بمناقصات لإدارة ميناءي حيفا وأشدود الرئيسيين لمدة 25 عاماً، كما كان مفترضاً أن تفتتح شركة SIPG الصينية مشروعها لتوسيع ميناء حيفا في عام 2021.
وقبل أن تبادر المصارف اللبنانية في الشهور الأخيرة التي تلت الانهيار الاقتصادي إلى طرح مبدأ بيع أصول الدولة اللبنانية لإطفاء الخسائر والديون المترتبة عليها، كان مرفأ بيروت من ضمن مجموعة من الأصول التي جرى اقتراح خصخصتها. رئيس الحكومة السابق سعد الحريري لفت في أيلول/ سبتمبر 2019 إلى ضرورة الذهاب باتجاه الشراكة بين القطاعين الخاص والعام في ما يتعلق بالمرفأ، وهو طرح غير محصور بفئة سياسية دون أخرى بل يتجاوز الاصطفافات ليشمل أطرافاً سياسية مشاركة في الحكومة الحالية.
لن يكون السير بمبدأ الشراكة بين القطاعين العام والخاص جديداً على اللبنانيين. هؤلاء عرفوه في قطاعات الاتصالات والنفايات والكهرباء والمعاينة الميكانيكية وغيرها. بنظر شريحة معتبرة من الخبراء والناشطين والاقتصاديين ليست الخصخصة في هذه القطاعات سوى عنوان لتغطية الفساد تحت عناوين الحاجة والضرورة. هؤلاء ينظرون إلى ترهّل القطاع العام وتردي الخدمات على أنه عمل مقصود من قبل الطبقة الحاكمة بغية تعبيد الطريق أمام الخصخصة بذريعة فشل القطاع العام في إدارة الخدمات.
من هذا المنطلق لا ينفصل ملف محاربة الفساد عن التوجّه الذي ستعتمده الحكومة لإعادة بناء مرفأ بيروت. المرفأ الذي تدير أعماله لجنة "مؤقتة" بصلاحيات كاملة من دون الخضوع للرقابة المالية منذ 18 عاماً.
الحكومة اللبنانية مطالبة اليوم من معظم اللبنانيين بما هو أبعد من محاسبة مقصّر أو مرتش أو سارق. تلك ليست سوى تجليّات هامشية لفساد يمكن توصيفه اصطلاحاً بالفساد الأصغر. أما الفساد الأكبر فهو الفساد المقونن الذي يبدأ من توجهات اقتصادية متعارضة مع مصالح الشعوب.
ستقف الحكومة آجلاً أمام خيارات متعددة ومتعارضة، لكنها تشكّل فرصة لإثبات ما عجزت عنه طيلة الشهور الماضية. إما أن تعيد تأهيل المرفأ على طريقة إعادة بناء الدولة والبنى التحتية التي تلت اتفاق الطائف، وإما أن تقطع مع مرحلة ما قبل الانفجار نحو خيارات جذرية وثورية لمصلحة كل اللبنانيين. من بين هذه الخيارات ثمة أمل أن لا تذهب دماء الشهداء والأحياء هدراً.