كورونا يجدّد التحدّي التربويّ أمام الأمّة العربيّة
كيف يمكن تأطير المقاربات والتأملات والحوارات المطروحة والاستفادة منها في تخطيط سياسات ومناهج تعليم الأجيال القادمة؟
منذ أشهر، أدى العلماء والباحثون والمفكرون، من خلال مشاركة معارفهم وتحليلاتهم المستنيرة، دوراً رائداً في تثقيف الناس بجائحة كورونا وآثارها المتوقعة في المجتمعات. ولا شكّ أيضاً في أن الإغلاق الذي تم فرضه على المؤسَّسات التعليمية، والحجر الصحي للناس في منازلهم، إضافةً إلى حداثة الفيروس والمرض الناتج منه، عوامل ساهمت في إعطاء قيمة مضافة لآرائهم ومقاربتهم السياسية والاقتصادية والمعرفية، ولكن من أجل المستقبل، وفي ما يتعلق بالتربية والتعليم تحديداً، ثمة سؤال غير بسيط يطرح نفسه: كيف يمكن تأطير هذه المقاربات والتأملات والحوارات والاستفادة منها في تخطيط سياسات ومناهج تعليم الأجيال القادمة؟
وفي هذا السياق، ينبغي القول إنَّ تفكيك هذه المقاربات والاستفادة منها في بناء سياسات تعليمية رصينة أو حتى مناهج تربوية معرفية - قيميّة تلائم المرحلة القادمة، ليس عملاً بسيطاً، على الأقل لسببين، يتصل الأول بوجود تنوّع وتباين بين تلك المقاربات وخلفياتها الإيديولوجية والاجتماعية، ويرتبط الآخر بتزايد الأطر السياسية والاقتصادية والفلسفية التي تتحكّم بالتربية والتعليم في الوقت الراهن في الغرب والشّرق على حد سواء، بل يمكننا القول ضمن الدولة الوطنية، حيث نرى اليوم أنّ المجتمعات والمؤسّسات التعليمية بدأت تفقد الكثير من الاتساق في ما بينها، وتراكم الصعوبات والعقبات أمام الأجيال.
ورغم ذلك، قد يبدو مفيداً أن نستمع إلى هذه المقاربات المتنوّعة، ونلائمها مع المناهج التي نقدمها لأطفالنا وتلاميذنا وطلابنا، وحتى تلك السياسات التي ندير بها مدارسنا وجامعاتنا، باعتبار أن مؤسساتنا التعليمية يجب أن يكون لها الدور الوظيفي الحاسم في صياغة مستقبل هذه المنطقة التي نعيش فيها، وقيم الأمة التي ننتمي إليها.
بكلّ تأكيد، إنَّ الجائحة الّتي نعيشها وآثارها لن تقتل المدارس والجامعات ودورهما المهم في إعطاء المعارف والمهارات للطلاب وصياغة انتمائهم وتقاربهم مع بعضهم البعض، ولكن من الضروري مضاعفة وحشد التفكير حول مسارين على ارتباط مباشر بالجائحة، بل وبمستقبل عملية تصور العمل التربوي التعليمي وتنفيذه، لأن ثمة تقارير وبيانات لمؤسسات الأمم المتحدة، وخصوصاً منظمة الصحة العالمية، ما زالت تغذي المخاوف المتعلقة بمسارات الجائحة وآثارها، وتؤكد أن موجةً وبائية ثانية ستجعل عمل المؤسسات التعليمية في غاية الصعوبة، وستعرض أيضاً الملايين من الأطفال والشباب لسلسلة من المآسي، وخصوصاً في الدول الفقيرة.
المساران اللذان يتطلبان مناقشات حية، وعلى أساس أزمة كورونا، هما باختصار:
التعليم عن بعد، فقد أكد انتشار الوباء السريع أهمية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وإمكانياتها التي لا تنضب عبر الزمان والمكان، كما حدد الحاجة إلى ضرورة التوسع في نطاق استخدامها ودمجها في الأنظمة المدرسية والجامعية الكلاسيكية، لحمايتها وتأكيد دورها الوظيفي في زمن الطوارئ الصحية وغيرها.
في تصوّري، إن استخدام التعليم عن بعد كنموذج لتحقيق الاستمرارية في نقل المعارف إلى التلاميذ والطلبة، وضع النظم التعليمية في بلدان الغرب والشّرق في القارب نفسه. لقد أصبح المعيار تحت ضغط انتشار الفيروس هو الامتثال للنموذج، بمعنى أن أي نظام تعليمي لا يرغب في الامتثال لمتطلبات هذا النوع من التعليم وأدواته يعتبر منحرفاً، حاضراً وربما أكثر مستقبلاً.
يوجد اليوم تغيّرٌ إيجابيٌ طفيفٌ في الممارسات التعليمية يتصل بمبادرات وتحرّك ملحوظ لتبنّي تكنولوجيات وأنماط تعليم جديدة شهدتها بعض الوزارات والمؤسسات في العالم العربي. ورغم ذلك، هناك حاجة للبحث عن آليات مشتركة لتحقيق تكامل على المستوى الإقليمي العربي في معالجة القضايا والآثار المترتبة على جائحة كورونا في مجال التعليم، وخصوصاً التعليم العالي.
ثمة لاعبون في هذا القطاع يجب أن يكون لهم دور في خلق مسار واضح ومشترك بين الدول العربية، كالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم... لكن لا أحد يتحدث عن ذلك، على الرغم من أهميته!
في الواقع، على مدى عقدين من الزمن وأكثر، أكَّد الباحثون أنَّ الكثير من أدوات التعليم والتدريب لحق بها تعديل كبير تحت تأثير الثورة الإلكترونيّة التي أسّسَت لمجتمع المعلومات أو المعرفة. والآن، يبدو بشكل واضح أن أزمة كورونا أظهرت، إضافةً إلى أهمية مواكبة المجتمعات لهذه الثورة الرقمية، ضرورة إعادة التفكير في إدارة الأهداف والمنهج والممارسات التعليمية وفق رؤية تعبوية مجتمعية، ومساعدة التلاميذ والطلبة في البحث عن أماكن أخرى يتعلمون بها بشكل أفضل من المدارس والجامعات مهارات القراءة والكتابة والتفكير واللغات والرياضة والفنون، واستخدام الآلة والحاسوب، وقيم الكياسة والتضامن واحترام الآخرين...
أما المسار الثاني، وهو الأهمّ، فهو يتعلّق في إيجاد طريقة مقبولة لتوحيد الأجيال الحالية والمقبلة، وإنقاذ مستقبلها في عالم معقّد ومتشابك ومتذبذب، ولا يوجد فيه شيء مؤكد، سواء أسعار الطاقة، أو الطلب على كيروسين الطيران، أو دور الآلة والمصانع التي ساهم التطور العلمي والتكنولوجي في بنائها.
يمكننا القول، شكلياً، إنَّ تجربة مواجهة كورونا في العالم والمنطقة العربية أظهرت أن بقاءنا كأفراد وجنس على حد سواء، اعتمد على قرارات عاجلة للنخب الحاكمة في المجال السياسي والاقتصادي والصحي، ولكن، في تصوري، إنّ أيّ تفاؤل بسلام واستقرار اجتماعي واقتصادي في السنوات المقبلة سيكون مرتبطاً بالثقافة التربوية التي نستخدمها في رعاية أبنائنا وتعليمهم المعرفة والقيم الإنسانية المشتركة، كما سيكون مرتبطاً إلى حد ما بالسياسات التعليمية التي ندير بها مستقبلهم كمواطنين.
في الواقع، أصبحت الأشياء شبه واضحة، بحسب الكثير من الخبراء، وسيكون على جميع الدول في السنوات القادمة التصدي لمشاكل عميقة وضخمة في مجال التوظيف والاقتصاد والصحة والبيئة، وإن كانت النصوص الدولية المرتبطة بالتربية والتعليم تقدّم صياغات توافقية حول هذه القضايا الأساسية: "العيش معاً"، و"مناهضة العنصرية"، و"التنمية المستدامة"، و"النظم الإيكولوجية"، و"الفساد العلميّ"، و"حرية التنقل والعمل"، إلا أن تلك النصوص تبقى بلا قيمة في ظل ما نراه من غليان وضغوطات وتحولات في العلاقات الدولية، وما بين الثقافات والأديان أيضاً.
وبالتالي، على التعليم المنشود لمرحلة ما بعد كورونا أن يُبنى وفق معاهدة جديدة تضمن حماية الأجيال القادمة من التقلبات السياسية والاقتصادية والمهنية والبيئية... ومن المستحسن أن تبنى هذه المعاهدة على مستوى الأمة العربية، بما يحقّق تنشئة اجتماعية مشتركة، ومصيراً أفضل لأطفالنا وللمستقبل الجماعي للأمة، لأن الأمم التي فهمت التعليم كمسألة أفقية حافظت على حضورها وكرامة أجيالها لقرون.