هل تكون بريطانيا كبش محرقة في الصّراع بين الصين والولايات المتحدة؟
توتير العلاقات بين الجانبين سوف يؤثر سلباً في اقتصاد بريطانيا، فالصين حالياً هي سادس أكبر سوق للصادرات البريطانية، ورابع أكبر مصدر لوارداتها.
عندما دعا وزير الخزانة البريطاني السابق جورج أوزبورن إلى التوجّه نحو الصين، كانت لديه قناعة بأنّ الصّين الصّاعدة ستصبح يوماً ما القوة الاقتصادية الأولى في العالم. وتجسَّدت مساعي أوزبورن بالإعلان عن العصر الذهبي للعلاقات الصّينية البريطانيّة أثناء زيارة الرئيس الصّيني شي جين بينغ إلى لندن في العام 2015، ولكن فاته أنّ هناك قوة عظمى أخرى ستسعى إلى عرقلة العلاقات بين البلدين.
بشكل عام، لم تكن العلاقات بين بكين ولندن ثابتة، بل كانت تشهد توترات بين الحين والآخر. ففي العام 2018، انتقدت بكين بريطانيا لإرسالها سفينة حربية قرب الجزر المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي. وفي العام 2016، طلبت رئيسة وزراء بريطانيا وقتها، تيريزا ماي، إعادة النظر في اتفاق لبناء محطّة نووية في بريطانيا بدعم من الصين، الأمر الذي أثار حفيظة الأخيرة.
وقبل ذلك بأربع سنوات، شهدت العلاقات بين الجانبين فتوراً عندما استقبل رئيس الوزراء البريطاني آنذاك ديفيد كاميرون الدالاي لاما، ولكن العلاقات ازدادت سوءاً في الآونة الأخيرة، بسبب اتهام المملكة المتحدة الصين بعدم الشفافية، وإخفاء معلومات حول فيروس كورونا المستجد، إضافةً إلى إقرار الصين قانون الأمن القومي في هونغ كونغ، وإعلان المملكة المتحدة أنها ستمنح الجنسية البريطانية لسكان المستعمرة البريطانية السابقة، رداً على هذا القانون، الأمر الذي أغضب بكين، واعتبرته تدخلاً في شؤونها الداخلية.
ومؤخّراً، فتحت بريطانيا فصلاً جديداً من المواجهة مع بكين، إذ قرَّر مجلس الأمن القومي البريطاني، برئاسة رئيس الوزراء بوريس جونسون، حظر اقتناء معدات شركة هواوي اعتباراً من نهاية السنة، كما أمر بسحب جميع معدات هواوي بحلول العام 2027.
وكانت الحكومة البريطانية قد منحت أوائل هذا العام شركة هواوي دوراً محدوداً في إقامة شبكات الجيل الخامس للاتصالات الخلوية في البلاد، إلا أنها أوضحت في الوقت نفسه أنها ستستبعد الجهات العالية المخاطر، على غرار هواوي، من الوصول إلى الأجزاء الحساسة في قلب شبكة 5G، ولن تزيد مشاركتها على 35 في المائة في الأجزاء غير الاستراتيجية منها، ولا سيّما أبراج الهوائيات.
قرار الحكومة البريطانيّة بحظر هواوي جاء نتيجة للضغوط التي مارستها الولايات المتحدة الأميركية عليها، باعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه، إذ صرّح بأنه كان المسؤول عن قرار بوريس جونسون بحظر هواوي، لأنها - بحسب رأيه - غير آمنة، وتشكل خطراً أمنياً.
وفي هذا الإطار، يتّهم المسؤولون الأميركيون هواوي، عملاق الاتصالات الصينيّة، بتهديد الأمن القومي للولايات المتحدة بالتواطؤ مع بكين، التي يمكن، بحسب واشنطن، أن تتجسّس على حركة الاتصالات العالمية، لكن الشركة الصينية العملاقة تنفي هذه الاتهامات.
قبل تعيينه رئيساً للوزراء في المملكة المتحدة، صرّح بوريس جونسون في مقابلة مع قناة "Phoenix TV" في العام 2019 بأنه مهتمّ جداً بمبادرة "الحزام والطريق" وبما يفعله الرئيس شي، ودعا المستثمرين الصينيين إلى مواصلة أنشطتهم في المملكة المتحدة، وأراد من الجامعات البريطانيّة تسجيل المزيد من الطلاب الصّينيين.
وقال أيضاً إنّ حكومته ستحافظ على سياسة مؤيدة للصّين. وقد كانت المملكة المتحدة بالفعل أوّل دولة في أوروبا الغربية تنضمّ إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، وهي مؤسسة جديدة طورتها بكين في آذار/مارس 2015. هذا القرار دفع معظم الدول الأوروبية إلى دخول عاصمة بنك الاستثمار الآسيوي، وسط مخاوف الولايات المتحدة.
وفي العام الفائت، بدأت بريطانيا محادثات مع الصين للانضمام إلى مبادرة "الحزام الطريق". وفي هذا الإطار، قال وزير المالية البريطاني فيليب هاموند في منتدى "الحزام والطريق" الذي عقد في نيسان/أبريل 2019 في بكين، إن المملكة المتحدة ملتزمة بمساعدة الصين لتحقيق طموحاتها الخاصة بإحياء هذا الطريق الذي يربط الصين بآسيا وأوروبا.
لقد أراد بوريس جونسون، ولأجل تحقيق رؤيته "بريطانيا عالمية" بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، التوجه نحو الصين، وهو ما يفسر موافقته في البداية على منح هواوي مدّ شبكات الجيل الخامس، ولكن يبدو أنَّ ذلك أثار غضب الإدارة الأميركية التي أجبرت بريطانيا على الانصياع لأوامرها، ورفض الاتفاق مع شركة هواوي، تحت فرض عدد من التهديدات عليها، أبرزها:
- انسحاب القوات الجوية الأميركية الموجودة في بريطانيا، وإعادة نشرها في غرب المحيط الهادئ، والتهديد بسحب طائرات التجسّس من طراز "RC-135" من بريطانيا، وخفض محتمل لـ10 آلاف جندي عسكري أميركي مقرّهم في المملكة المتحدة.
- التأثير في مباحثات اتفاقية التجارة الحرّة بين البلدين، فقد صرّح الرئيس ترامب أنَّ على البلدان حظر هواوي إذا أرادت القيام بأعمال تجارية مع الولايات التحدة الأميركية. وحالياً، الولايات المتحدة الأميركية هي الشريك التجاري الأول لبريطانيا، إذ بلغ حجم التجارة المتبادلة بين الطرفين 275 مليار دولار، وتستورد بريطانيا منها 2.67 مليار دولار أميركي، أي حوالى 15.5 من مجموع واردات بريطانيا، ناهيك بأنها من أكبر مستوردي الأسلحة الأميركية، وعدم حظر هواوي كان سيؤثر في اتفاقيات الأسلحة بين البلدين.
قرار الحكومة البريطانية بحظر هواوي الصينية قابله رد صيني، إذ قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، هوا تشون يينغ، للصحافيين، إنّ بلادها "ستتخذ سلسلة من الإجراءات للدفاع عن الحقوق والمصالح المشروعة للشركات الصينية"، مضيفةً من دون المزيد من التفاصيل: "هناك ثمن يجب دفعه".
وعلى إثر إقرار قانون الأمن القومي في هونغ كونغ، وعرض لندن الجنسية على سكان المستعمرة البريطانية السابقة، أشار سفير الصين في بريطانيا، ليو شياو مينغ، إلى أنّ على بريطانيا أن تتحمل العواقب إذا عاملت الصّين كعدو، وحذّر من أنَّ العواقب "قد تكون كثيرة" إذا قررت المملكة المتحدة رفض هواوي.
مما لا شكَّ فيه أنَّ قرار الحظر سوف يضر بالمصالح الصينية والبريطانية على حد سواء، وسيؤثر سلباً في العلاقات الصينية البريطانية، وليس مستبعداً أن تلجأ الصين - كما فعلت مع أستراليا - إلى مقاطعة بريطانيا اقتصادياً، والطلب من السياح والطلاب الصينيين عدم التوجه إلى المملكة المتحدة، فضلاً عن زيادة التعرفة الجمركية على البضائع البريطانية.
وسيؤثر توتّر العلاقات بين الصين والمملكة المتحدة في اتفاق التجارة الحرّة بين البلدين، والذي كانت بريطانيا تأمل توقيعه مع الصين بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، وهو يعرقل مشاريع شركات صينية لبناء محطات طاقة نووية وشبكة سكة حديد فائقة السرعة "أتش أس 2".
إن توتير العلاقات بين الجانبين سوف يؤثر سلباً في اقتصاد بريطانيا، فالصين حالياً هي سادس أكبر سوق للصادرات البريطانية، ورابع أكبر مصدر لوارداتها، بحيث بلغت صادرات المملكة المتحدة إلى الصين في العام 2019 حوالى 38.7 مليار دولار. أما وارداتها، فبلغت 61.59 مليار دولار أميركي.
وشكَّلت بريطانيا أرضاً خصبة للاستثمارات الصينية، بحيث ازداد استثمار الشركات الصينية فيها خلال العام الماضي، وبلغ 8.3 مليار دولار بين كانون الثاني/يناير وآب/أغسطس 2019.
كما يساهم السياح والطلاب الصينيون في إنعاش الاقتصاد البريطاني. ووفقاً لهيئة السياحة البريطانية، بلغ عدد الزائرين الصينيين إلى بريطانيا حتى أيلول/سبتمبر من العام 2019 حوالى 321 ألف سائح، بزيادة 8% عن العام 2018، وأنفق الزائرون الصينيون 722.9 مليون دولار أميركي، بزيادة 11% عن العام 2018.
من ناحية أخرى، أصبحت بريطانيا الوجهة الأولى للطلاب الصينيين، وباتت الجامعات البريطانية تعتمد عليهم بشكل كبير لتحقيق دخلها، فالصّين هي أكبر مصدر للطلاب الدوليين في الممكلة المتحدة، إذ تم إصدار 115 ألف تأشيرة دراسة لطلاب صينيين في العام 2019، تمثّل 45% من تأشيرات الدراسة الدولية.
وكشفت أرقام من وكالة إحصاءات التعليم العالي البريطانية أن عدد الطلاب الصينيين في جامعات بريطانيا ارتفع بنسبة 34% في السنوات الخمس الماضية. وتبلغ رسوم الطلاب الصينيين 2 مليار دولار، وهو ما يمثل 5 في المائة من دخل الجامعات البريطانية.
ضربة موجعة تلقّاها الاقتصاد البريطاني الذي ما كاد يلفظ أنفاسه من تداعيات الخروج من الاتحاد الأوروبي حتى فتك به فيروس كورونا. ويشهد اقتصاد المملكة المتحدة أسرع انكماش له منذ الأزمة المالية التي شهدها العالم في العام 2008. ومن المتوقع أن يرتفع الدين العام بنسبة 879 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة، وستزداد خسائره بسبب حظر شركة هواوي.
تعمد المملكة المتحدة اليوم إلى تخفيف الاعتماد على الصين والبحث عن بدائل منها، ولكن هل سيتمكّن بوريس جونسون من تحقيق شعاره "بريطانيا عالمية" بعيداً من الصين؟ وفي إطار آخر، هل سيحذو الاتحاد الأوروبي حذو بريطانيا، ويحظر شركة هواوي إذا مارست الولايات المتحدة الأميركية ضغوطاً عليه؟