بنيات الفكر العنصري في الفكر الغربي ونتائجه
تطوّرت العنصرية "العلمية" (البيولوجية) بين 1880 و1914، ويمكن اعتبارها اليد اليمنى لتبرير الإستعمار الأوروبي واضطهاد واسترقاق أجناس بشرية أخرى، وعرفت هذه العنصرية ذروتها بين 1920 و1945.
رجعنا في هذا المقال إلى الفصل الخامس من كتاب نحن بصَدَد إنهائه تحت عنوان "الأبرتهايد، نحو نظرة متكاملة" لصالح المركز الإسلامي للدراسات الإستراتجية في بيروت. ونظراً للأهمية الخاصة للموضوع حالياً، نقدّم تلخيصاً لهذا الفصل، لفَهْم ما يحدث من حولنا حالياً وأخذ مسافة من الأحداث التي بدأت في أميركا ولربما تقطع البحار لتصل أوروبا الغربية، لأن الشروط التي سبّبت ما اصطلحنا عليه "الربيع الأميركي" متوافرة بما فيه الكفاية في الأقطار الأوروبية الغربية: العنصرية، وصول النيوليبرالية إلى الحدود القصوى لتطوّرها وبداية مرحلة ديكتاتوريّتها وفُقدان الشعوب الأوروبية، وبالخصوص القاعدة الشعبية الواسعة، لإمكانية الفعل الحقيقي سياسياً واقتصادياً.
فقد استيقظت هذه الشعوب على فاجعة المواد التخديرية التي فُرضِت عليها منذ قرون وأقحمتها في عقلية قطيع يستهلك ويفهم الرفاهية ورَغد العيش كأهدافٍ شبه أخلاقية في الحياة، من دون التساؤل عما يختبأ وراء عجلة التصنيع، ليس فقط في ما يخصّ البيئة، بل وأيضاً في ما يتعلّق بالإنسان كإنسان.
فالفردانية أصبحت عزلاً حقيقياً لأفراد الشعب وبناء الثقافة الشعبية العامة على أسُس التفريق وليس الوحدة، سواء أكان هذا التفريق عرقياً أو اقتصادياً أو دينياً وأخلاقياً. فإذا كان الهدف الأقصى لليبرالية الجديدة هو تركيز خيرات العالم في يد حفنة تُعدّ على رؤوس الأصابع، وبعدما نجحت في سلب كل دول العالم آخر ما كانت تمتلكه (كرامتها) تحت مُسمّيات مختلفة: التجارة الحرّة، خلق تحالفات لفرض الخيارات الغربية، الحرب العادلة، النظام العالمي الجديد، العولمة إلخ، ها هي تركّز اليوم على سحق مجتمعاتها بكل الوسائل الظاهرة والباطنة. استراتيجيات هذا السحق مختلفة ومُتعدّدة، تذكر في جزئيّاتها بالطريقة التي بدأت بها أوروبا هيمنتها على العالم ابتداء من سقوط آخر الممالك العربية الإسلامية في الأندلس: استرقاق الناس وممارسة التمييز العنصري الممنهج والمؤسّساتي وقتل مبادئ الأنوار تحت ذريعة حماية الثقافة الغربية إلخ.
سنحاول البرهنة على أن العنصرية هي أساس من أسُس الثقافة الغربية، بل هي بنيات مُتعدّدة، مبنية على شكل طبقات مرصوصة فوق بعضها البعض، طبقتها السميكة هي نبذ وإقصاء كل ما ليس غربياً، وعندما لا يبقى إلا هذا الأخير تظهر طبقات أخرى تعمل على نبذ القاعدة الشعبية، لفقرها وجهلها وأميّتها الوظيفية، وبالخصوص في أوقات الأزمات الاقتصادية والأوبئة الفتّاكة. وبما أن هذه البنيات كثيرة ومُتشعّبة ومُتداخِلة في ما بينها، فإننا اخترنا أهمها لهذا المقال، بدءاً بفكر التنوير، الذي ساهم مباشرة في التأسيس لثقافة العنصرية في الغرب، والبيولوجيا التي استغلّت لمدة طويلة لتبرير الإستعمار بالدفاع عن "العنصرية العلمية" والمَعَارض الكولونيالية التي كانت مُخصّصة لزرع العنصرية في الطبقات الشعبية الغربية.
من البديهيات الساطعة الوضوح هو الغياب التام، ولربما المقصود، لتخصيص فلاسفة الأنوار والعصر الحديث دراسات جدية لموضوع الإسترقاق والتمييز العنصري، في زمن عرف "تحوّلاً" كبيراً في محاولات "عقلنة" السلوك والواقع. وتنطبق هذه الملاحظة على الفلاسفة الغربيين المعاصرين أيضاً، إلا قلّة قليلة منهم. وأحد أسباب هذا الغياب هو كون التطرّق للرقّ لم يكن يتناسب مع ما كان الأوروبي يعتقده عن العِلم الحديث، بل استعمل المرء غطاء العِلم والفلسفة لتبرير الإسترقاق. تمّ العمل على تبرير التمييز العنصري "علمياً" لتثبيته سياسياً. قفز المرء على نظرية التسلسل الأحادي للبشرية، القائل بأن كل البشر ينحدرون من آدم وحواء، ليؤكّد بمبرّرات هاوية بأن هناك بشراً انحطوا في إنسانيّتهم وتخلّفوا في كل المجالات. والأخطر من هذا هو ظهور فكرة تعدّد أصول البشرية، بمعنى كون البشر لا ينحدرون من نفس الأصل. وفُهمت الحياة من طرف الكثير من فلاسفة التنوير كصراع أجناس مُتحضّرة ضد أجناس مُتخلّفة، مُفترضين بذلك حتميّة التخلّف "البنيوي" لثقافات الشعوب غير الأوروبية، وبالتالي اختزال الإنسان إلى بُعد مادي واحد يتمّ التعامل معه بلغة الأشياء.
إذا كانت لائحة الفلاسفة والمُفكّرين الغربيين العنصريين أثناء وبعد الأنوار مُرعبة، فإن الأكثر رعباً هو أن المرء لم يتطرّق إلى هذه الظاهرة إلا نادراً جداً، بل لم تُقدم دراسات جدية في الموضوع، تسمح بإعادة النظر في شبه "التقديس" الذي يُحظى به مثل هؤلاء الفلاسفة، على الرغم من أنهم أخلاقياً بدفاعهم عن العنصرية بشكل من الأشكال، حشروا أنفسهم من تلقاء أنفسهم في ثنائيات مُتناقِضة لا حصر لها في تحاليلهم. وعلى الرغم من أن المرء يُعلّل الموقف الإيجابي من العنصرية للكثير من الفلاسفة والمُفكّرين الغربيين بكونهم أبناء عصرهم، وبأن العبودية كانت أمراً يُمارس قانونياً ومقبولة من طرف عامة الناس، فإن هذا الطرح تبريري أكثر منه بُرهاني، لأن هناك مُفكّرين آخرين رفضوا العبودية والإستعمار والعنصرية رفضاً قاطعاً وبحزم في نفس الفترة التاريخية.
إن مُصطلح العرق كما نفهمه اليوم -أي كتصنيف بيولوجي يُحَوِّل الفرق الفيزيقي إلى علاقة هيمنة- هو منتوج مباشر للأنوار. وظهرت العنصرية، باعتبارها نظاماً اجتماعياً سياسياً مؤسّساً على الهرمية الدائمة، كمحاولة للقضاء على التناقض العميق بين إشعاع الأنوار والإبقاء على العبودية. ومن مسؤولية كل مَن يتغنّى بالأنوار ويروّج لها ألا يغضّ الطرف عن تركيبتها الحقيقية ومحاولة تعليل وجهها اللاإنساني.
نُصادف في كتاب "أنماط البشر" المنشور عام 1854، رسماً توضيحياً يوحي بأن سود البشرة من الناس يقعون في رتبة بين الإغريق والشامبانزي. وقد حاول البيولوجيون الغربيون بكل ما أوتوا من "جهل" البرهنة على هذا الأمر بأدوات "علمية"، تُستعمل في مجال العلوم الدقيقة، بفرضيات يوحي ظاهرها بأنها علمية ومؤسّسة على التجريب والقياس إلخ. وهذا ما يُصطلح عليه بـ "العنصرية العلمية". والغريب في الأمر أن مثل هذه الإدّعاءات لاقت رواجاً كبيراً بين العلماء. وفي عام 1869 قام البريطاني "فرانسيس جالتون" بوضع قواعد علم "اليوجينيا" الذي يختص بآليات التحكّم في السلالة البشرية من خلال رَصْد التفاوت العرقي للحد من تناسل مَن لا يستحقّون الحياة في نظره كالمُعاقين والمُتخلّفين ذهنيّاً والزنوج (التأسيس الحقيقي للنازية).
تطوّرت العنصرية "العلمية" (البيولوجية) بين 1880 و1914، ويمكن اعتبارها اليد اليمنى لتبرير الإستعمار الأوروبي واضطهاد واسترقاق أجناس بشرية أخرى. وعرفت هذه العنصرية ذروتها بين 1920 و1945، لكنها لم تعرف انتقادات جوهرية إلا نهاية القرن العشرين، وبالخصوص بعد بيان منظمة اليونيسكو: " صراع الأجناس" عام 1950.
ومن الطرائف، التي يمكن إدراجها في الخُرافات العلمية الأوروبية هو أن جورج دي بوفون (1707- 1788) ويوهان بلومنباخ (1752- 1840) كانا يعتقدان، بأن آدم وحواء كانا من بلاد القوقاز، أي من جنس أبيض (وللسخرية منهما أكّد شوبنهاور بأن آدم كان أسوداً، أو على الأقل قمحي لأنه وُلِدَ في الشرق الأوسط). كما دافعا عن فكرة كون كل الأعراق الأخرى ناتجة من تأثير عوامل بيئية كالشمس وسوء التغذية ونمط الحياة. وفي هذا الإتجاه ذهب بنجامين روش (1812)، صاحب مُصطلح "التزنج"، الذي قصد به مرض يُصيب الجلد ويُصبح داكناً، واعتقد بأن الزنوج مصابون بهذا المرض، وهو في زعمه مرض وراثي.
لم تنته العنصرية "البيولوجية"، بل هناك إلى اليوم، بعض الجهات الداعمة لها، بما في ذلك بعض الجرائد والمجلات، بنشرها لمقالات تصبّ في هذا الإتجاه: الجريدة البريطانية مانكايند Mankind Quarterly ومجلة " تَفوّق الجنس الأبيض" ومجلة " العنصرية العلمية" وغيرها كثير. ومن الكتب التي حقّقت مبيعات كبيرة في أميركا وبريطانيا في السنين الأخيرة هناك كتاب "منحنى الجرس" لعالمي النفس تشارلز مواري وريتشارد هيرمستين. ومنحنى الجرس نموذج بياني يعبّر عن انقسام المجتمع في شكل يشبه الجرس. تحتل نخبة المجتمع قمّة الجرس. ويكثر عدد دهماء الناس وتتّسع قاعدتهم كلما هبطنا للأسفل. قد يكون هذا صحيحاً وموجوداً في كل مجتمع، إلا أن مواري وهيرمستين حاولا حصر السود والمهاجرين في قاع الجرس ورفع النخبة المسيحية البيضاء إلى قمّته، وحاولا البرهنة على أن تخلّف السود أمر فطري وأنه لا فائدة من محاولة تطوير مواهبهم أو زيادة ذكائهم. ويلتقيان هنا مع روبرت بلومين الذي أكّد على أن الذكاء يكون وراثياً بنسبة كبيرة، بمعنى أن لذكاء شخص ما علاقة ببيولوجيّته؛ وفي هذا الادّعاء تبرير للعنصرية الصارِخة. كما أن اختبارات الذكاء المعمول بها حاليا، لم تُثبت بعد جدارتها، لأن عمليات وسيرورات الذكاء -بمعنى مهارات يستطيع المرء القيام بها- معقّدة للغاية ولا علاقة لها بجنس الشخص.
تُستغل البيولوجيا العنصرية سياسياً أيضاً، حتى وإن كان من الصعب بكثير التعرّف السريع على المُدافعين عنها في عالم العِلم البيولوجي حالياً، لأنهم يختبؤون وراء الكثير من الذرائع كحق التعدّد والإختلاف العلمي والتعبير عن الرأي وصوغ فرضيات ومحاولة البرهنة عليها. وما يجب فهمه هو أن أصحاب نظريات العلم "العنصري" لم يلتجؤوا للعلم للبرهنة على عنصريّتهم، بل انطلقوا من عنصريّتهم ليبرهنوا على اختلاف الأجناس. وكما كانت عليه الحال بالأمس، فإن الأمر يتعلّق في عصرنا هذا بالرغبة العميقة في الإستمرار في السيطرة على العالم من طرف نُخبة من البيض، تعتقد بأنها أسمى من كل ما عداها.
عندما احتفلت فرنسا عام 1889 بمرور قرن على ثورتها، لم تجد أيّ حَرَج في تنظيم أكبر معرض لعرض الزنوج وأجناس أخرى في ما سُمّي آنذاك "المعارض العالمية". وتذكّرنا "القرية الزنجية"، التي نُظمت في باريس وزارها في ذلك الوقت أكثر من 28 مليون شخص، بفاجعة تفوق بكثير العنصرية والإسترقاق والتمييز العنصري، بما أنها مسّت بالكرامة الإنسانية، في دولة كانت تتغنّى بأنها راعية هذه الكرامة، أينما كانت. ولم تُنظّم مثل هذه المعارض في فرنسا فقط، بل في غالبيّة الدول الإستعمارية في هابرورغ ولندن وبروكسل وشيغاغو وجنيف وبرشلونة وأوساكا وسيدني ولشبونة وجنوة وغيرها. ولم يشعر الإنسان الغربي بصفة عامة والأوروبي بالخصوص بأي ّحَرَج ولا وَخزة ضمير، لأنه كان يعتبر البشر المَعروضِين ليتفرّج عليهم بشراً آخرين وُحُوشاً، سواء أَاُحضروا من السينغال أو من مصر أو كانوا نوبيين أو هنوداً حمراً أو كوريين إلخ. وطبقاً للصوَر الموجودة إلى حد الآن عن هذه المعارض، فإن عرض هؤلاء الناس كان في الغالب يتمّ بجانب حيوانات متوحّشية، للتركيز على وحشيّتهم أيضاً. وتقول الأرقام بأن هناك أكثر من مليار غربي زار هذه المعارض بين 1870 و1940. ويُظهر هذا بوضوح، بأن قوانين إلغاء العنصرية والعَبَث بالجنس البشري من طرف الغربيين، لم تُساعد للحد من إكراه سكان المستعمرات على القيام بأشياء لا تُقلِّل فقط من إنسانيّتهم، بل تسحبها عنهم نهائياً، ليصبحوا أدوات ترفيهية، يتسلّى بها الغربي.
هناك إذن بُعد عنصري إمبريالي لهذه المعارض، وهي عند فَهْم عُمقها نوع من تغيير تركيز الأوروبيين على العنصرية في ما بينهم، وتوجيهها إلى العنصرية ضد كل ما هو غير أوروبي. وهنا بالضبط نلمس آثار المركزية الأوروبية بكل سِماتها المعروفة. أضف إلى ذلك بأن الأوروبيين كانوا يهدفون إلى تبرير الإستعمار وضرورة "الرسالة الحضارية" التي يحملونها لإيصال الشعوب المُستعمرَة إلى سكة قطار التقدّم.
لم تجذب هذه المعارض الجمهور العريض من الأوروبيين وحسب، بل اهتمّ بها الكثير من "العلماء" مثل الأنثروبولوجيين بهدف القيام بقياسات مختلفة على البشر المعروضين في هذه المعارض، خاصة وأن "بيولوجيا الأجناس" -أي "العِلم العنصري"- كان قد نجح في جَذْب الإنتباه له أكثر وأكثر. وقد وفّرت هذه المعارض الوقت على "العلماء"، والإنخراط في أسفار لسنواتٍ طوال إلى المستعمرات قَصْد القيام بقياساتهم وعرض أطروحاتهم ونظرياتهم عن اختلاف الأجناس، خدمة للفكرة الرئيس: أفضليّة الجنس الأبيض على ما سواه. بمعنى أن هذه المعارض زاوجت بين الترفيه الجماهري و"دراسات" "العلماء".
كانت هذه المعارض بمثابة معامل قائمة بذاتها لإنتاج العنصرية والأحكام المُسبقة على نطاق واسع في الأوساط الواسعة، أي الجماهيرية، في عموم أوروبا. بتعبير آخر، كانت بمثابة وسيلة بيداغوجية جماهيرية لتعميم أفكار البيولوجيا العنصرية، لأن أغلبيّة الأوروبيين في ذلك الوقت لم يكونوا يُحسنون القراءة والكتابة، بل حتى الكتب لم تكن منتشرة بالكثافة والعدد الذي نعرفه الآن. وكان لظهور الصورة الفوتوغرافية في ذلك الوقت واستعمالها الواسع كأداة بيداغوجية للترويج للعنصرية، أثراً كبيراً في أوروبا.
لعلّ هذه الإطلالة السريعة على ثلاثة أسُس ثقافية من بين أخرى للعنصرية الغربية كافية لفَهْم انخراط الكثير من الناس من جنسيات مختلفة ولون بشرة مختلفة في التظاهرات المُناهِضة للعنصرية، ليس فقط في أميركا، بل في الكثير من الدول الأوروبية الأخرى. فأصحاب البشرة البيضاء الذين شاهدناهم في هذه التظاهرات يستشعرون الخطر المُحدق بهم هم أنفسهم، والمُتمثّل في آخر تطوّرات الليبرالية الجديدة، أي وصولها إلى قمّة الرغبة في القضاء على أكبر عدد ممكن من البشر في أنظمة ديكتاتورية مُقنّعة، مُشخّصة في ترامب الذي لم يعد المرء قادراً على التمييز بين نصيب الديكتاتورية في شخصيّته ونصيب جنون العَظَمة. وليس هناك شخص آخر جمع كل شروط النُخبة الليبرالية الجديدة لتحقيق آخر خطوة لها: الإبقاء فقط على ما يحتاجونه من البشر، وليكونوا كلهم من البيض، لأن الأجناس الأخرى لم تعد تهمّهم، بل أصبحت عالة على الليبرالي الأبيض. فقد تحوّل "صِدام الحضارات" بقدرة قادر إلى "صراع الأغنياء والفقراء" في الغرب، ولا تلوح في الأفق أية حلول لهذا الصراع، ما دام الأمر يتعلّق بمصير إما الليبرالية المتوحّشة أو الإنسانية. إنه صراع وجود رهيب.