الرهانات الأميركية في لبنان والأبواب الموصدة
خطاب السيد نصرالله اعتبرته صحيفة "جيروزاليم بوست" جزءاً من تحول أكبر في الشرق الأوسط بعيداً من الولايات المتحدة حيث يبدو أن نفوذها يتراجع في المنطقة.
ربما تجدر إعادة عقارب الساعة قليلاً إلى الوراء. يساعد هذا ربما في فهم أوضح لما يحدث في لبنان والمعركة التي يخوضها البلد ومعه المقاومة ضد الضغوط الأميركية. في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي أدلى السفير الأميركي السابق والأشهر في لبنان، جيفري فيلتمان، بشهادة أمام الكونغرس الأميركي. قبل ذلك بثمانية أشهر كان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في بيروت، يهدّد اللبنانيين. وضعهم حينها بين خيارين: إما مواجهة حزب الله، أو دفع الثمن.
بالتزامن مع شهادة فيلتمان وغداة الحراك الشعبي الذي شهده لبنان بدءاً من 17 تشرين أول/ أكتوبر 2019 كشف رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عن توصيفه لما يجري. قال إنها "هزة أرضية". لم يكتف بذلك بل أفاض بالحديث عن دلالات ومآلات هذه "الهزة". رأى أنها ستؤدي إلى إعادة إنتاج بيئة إقليمية مغايرة لما كانت عليه.
كانت الرهانات الإسرائيلية والأميركية واضحة من الأساس وتم التعبير عنها بشكل جلي. لاحقاً وفي شهر أيار/ مايو الماضي هدد مساعد وزير الخارجية الأميركية ديفيد شينكر بفرض عقوبات على حلفاء حزب الله. كان الهدف من ذلك عزله وتطويقه.
في حزيران/ يونيو الماضي أعاد شينكر نفسه التأكيد على أن هناك "عقوبات ستطبّق في لبنان تتعلق بمكافحة أنشطة حزب الله، وكذلك عقوبات بإطار قانون ماغنيتسكي لمحاربة الفساد في لبنان". بعد ذلك حاولت السفيرة الأميركية في بيروت دورثي شيا التحريض ضد حزب الله.
عودة إلى شهادة فيلتمان في الأشهر التي سبقت نهاية العام الماضي. في جلسة بعنوان "ما هو التالي للبنان؟ دراسة الآثار المترتّبة على الاحتجاجات القائمة" التأمت إحدى لجان الكونغرس للاستماع إلى السفير المخضرم في الشؤون اللبنانية.
أهمية تلك الشهادة أنها جاءت في ظل تباينات في وجهات النظر شهدتها واشنطن حيال كيفية التصرف مع لبنان.
اعتبر فيلتمان أن لبنان "مكان للمنافسة الاستراتيجية العالمية، وإذا تنازلنا عن الأرض، سيملأ الآخرون الفراغ"، وسأل: "ماذا لو استغلت روسيا موانئ لبنان الثلاثة ومخزونات الهيدروكربون البحرية؟ ستفوز في شرق وجنوب المتوسط، على حسابنا". كما أبدى قلقه من تنامي النفوذ الصيني، وصعوبة مقاومة اللبنانيين تقنية الجيل الخامس الصينية.
كما أوصى بأن يكون موقف واشنطن واضحاً "بأننا لا نريد أن نرى الانهيار المالي أو السياسي للبنان"، خشية أن توفر الفوضى والحرب الأهلية المزيد من الفرص لإيران وسوريا وروسيا للتدخل. وربط حشد الدعم المالي والاقتصادي بقرارات اللبنانيين، بما في ذلك تشكيل الحكومة وسياساتها.
هذا الدعم المشروط عبّر عنه لاحقاً بشكل أوضح عدد من المسؤولين الأميركيين. شهادة فيلتمان جاءت قبل تشكيل الحكومة اللبنانية الأخيرة، لكنها أعقبت نقاشات بدأت منذ فوز حلفاء المقاومة في الانتخابات النيابية الأخيرة ومجيء إدارة دونالد ترامب. بيّنت السنوات اللاحقة، ومنها ما يحدث اليوم، أن القرار الذي انتصر داخل أروقة صناعة القرار في الولايات المتحدة هو الاتجاه نحو هزّ الاستقرار اللبناني بما فيه الاستقرار المالي والاقتصادي، والدفع باتجاه الضغوط القصوى. لكن ماذا كانت النتيجة حتى الآن؟
يمكن قراءة ذلك في خطاب السيد حسن نصرالله الأخير (7-7-2020). خطاب وصفته صحيفة "جيروزاليم بوست" بالخطاب الهام الذي يرسم الرغبة في إزالة الولايات المتحدة من لبنان وخلصت إلى اعتباره "جزءاً من تحول أكبر في الشرق الأوسط بعيداً من الولايات المتحدة حيث يبدو أن نفوذها يتراجع في المنطقة".
تختصر هذه القناعة فشل الرهان الأخير على إضعاف المقاومة في عرينها وتحويل التحديات إلى فرص. فمقابل الضغوط الاقتصادية على لبنان ومحاولة تجويعه تمكّنت المقاومة من تثبيت معادلة عكسية. معادلة عبّر عنها السيد حسن نصرالله بالقول في خطابه الأخير إن "سياسة خنق لبنان ستقوي حزب الله وتضعف حلفاء أميركا ونفوذها".
إنها ليست إذاً سوى مسألة وقت. بعدها سينضم مشروع العقوبات والتجويع وتأليب الرأي العام ضد المقاومة إلى سلسلة الإخفاقات السابقة التي سرعان ما تآكلت وأصابها الصدأ. لن يجد الأميركيين في النهاية بداً من التراجع. ذلك أن الإصرار على المضي بهذا المشروع سوف يقود بداهة إلى أمر حتمي عبّر عنه السيد نصرالله في خطابه حيث أشار إلى أن "الناس لن يجدوا أمامهم ملاذاً إلا المقاومة وحلفاءها المحليين والإقليميين، وإن السياسة الأميركية ستدفع لبنان إلى أن يكون ضمن هذا المحور".
لا يجد أمين عام حزب الله غضاضة من التوجه إلى الرأي العام اللبناني والقول بثقة إننا "لسنا عقبة في أن تأتي أميركا لتساعد لبنان". كعادته يلجأ السيّد نصرالله إلى إلقاء الحجّة لأنه من دون هذه المساعدة يصبح من الصعب إقناع الشعب اللبناني بغير ضرورة اللجوء إلى أي طرف إقليمي أو دولي يعرض حبل النجاة على اللبنانيين. يحدث ذلك في وقت تتهرب فيه الولايات المتحدة من التزاماتها المالية وتنسحب من المنظمات الدولية وآخرها منظمة الصحة العالمية.