مبعوثو الدّولة العظمى في لبنان والعراق فوق القانون الدوليّ

السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يأتي هذا الهجوم العلني على حزب الله في هذا الوقت، ومن السفارة الأميركية مباشرة؟ هل هو استكمال للحملة المنظمة لتشويه سمعة الحزب وتأليب الرأي العام ضده؟

  • اجتماع وزير الخارجية اللبناني ناصيف حتي مع السفيرة الأميركية دوروثي شيا (دالاتي ونهرا).
    اجتماع وزير الخارجية اللبناني ناصيف حتي مع السفيرة الأميركية دوروثي شيا (دالاتي ونهرا).

فتح قرار القاضي اللبناني محمد مازح باب النقاش حول الدور الدبلوماسي المنوط بالسفير داخل الدولة التي يمثل بلاده فيها، وحدود عمله في مراعاة الأعراف والأصول الدبلوماسية في العلاقات بين البُلدان، وفقاً لما نظّمه القانون الدولي واحترام الدول لتطبيقه.

اتفاقيّة فيينا هي الأكثر تداولاً عند كل حالة شاذة عن العمل الدبلوماسي المتعلّق بتحسين علاقات البلدين، وفقاً لما نظّمته هذه الاتفاقية التي أُبرمت في العام 1961، فما هي الحالة التي ألقت الضوء على مواد هذه الاتفاقية، وجعلتها محل أخذ ورد بين مُطالبٍ باحترامها وتطبيقها وآخر غير مكترث بما نصَّت عليه، بقدر ما يهمّه رضا الدولة العظمى التي ترى نفسها فوق القانون الدولي؟

إنَّ التصريحات الفاقعة للسفيرة الأميركية في لبنان، دوروثي ك. شيا، عن الأزمة الاقتصادية التي يمرّ بها البلد حالياً، واتهامها حزب الله بأنه يحول دون إجراء إصلاحات اقتصادية، وتحميله مسؤولية تدهور الأوضاع المعيشية، كانت بمثابة إعلان حرب علنية ضد شريحة واسعة من الشعب اللبناني، وبتحريض تجاوز الهدف الدبلوماسي الذي من المفترض أن تعمل دوروثي لأجله، وهو تمثيل بلادها دبلوماسياً في لبنان، الأمر الذي استند إليه قاضي الأمور المستعجلة في صور، محمد مازح، حين أصدر قراراً قضائياً يمنع وسائل الإعلام اللبنانية والأجنبية في لبنان من إجراء مقابلات تلفزيونية معها أو أخذ تصريح منها، لكونها تجاوزت الأعراف الدبلوماسية، واعتبر أنّ تصريحاتها انتهاك للسيادة اللبنانية، وأنها تندرج في قائمة التحريض واستدعاء الفتنة بين اللبنانيين، الأمر الذي أعقبه استقالة القاضي بعد استدعائه من قبل التفتيش القضائي، على خلفية عدم تقييد حرية الإعلام في لبنان، ولكون الحكومة السياسية ووزارة الخارجية هي المعنية الأولى باتخاذ الإجراء المناسب، ولكن كان رد فعلها استدعاء السفيرة فقط، وفي جلسة ودية مع وزير الخارجية الذي كان أقرب إلى التبرير من التنديد.

هذا المشهد ربما استفزّ الشارع اللبناني الذي وجد في القرار القضائي ضالّته، فكانت الوقفة الاحتجاجية أمام وزارة الخارجية اللبنانية رفضاً لتدخلات السفيرة الأميركية في الشؤون اللبنانية، فهل يحق للمبعوث الدبلوماسي أن يدلي بتصريحات تتعلق بالشأن الداخلي للبلد المعتمد لديها؟ وفي حال النفي، ما هو الإجراء الذي يمكن أن تتخذه سلطة الدولة المعتمد لديها وفقاً للقانون الدولي؟

تقول المادة 41 من اتفاقيَّة فيينا: "مع عدم المساس بالمزايا والحصانات، على الأشخاص الذين يتمتعون بها احترام قوانين ولوائح الدولة المعتمدين لديها، وعليهم كذلك واجب عدم التدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدولة". إن النص واضح بوجوب عدم التدخل في الشؤون الداخلية، ويعدّ سلوك السفيرة الأميركية خرقاً للاتفاقية الدولية. وعليه، ما هو الإجراء القانوني الذي يمكن للدولة اللبنانية أن تتّخذه؟

لاحظت المادة 9 من اتفاقية فيينا هذا الأمر، من خلال النصّ على أنّ "للدولة المعتمد لديها في أي وقت، ومن دون ذكر الأسباب، أن تبلغ الدولة المعتمدة أن رئيسَ أو أيَ عضو من طاقم بعثتها الدبلوماسي أصبح شخصاً غير مقبول، وعلى الدولة المعتمدة أن تستدعي الشخص أو تنهي أعماله لدى البعثة وفقاً للظروف".

لماذا لم تلجأ الحكومة اللبنانية إلى هذا الخيار القانوني؟

لا يمكن أن يكون الجواب بوضوح النص، نظراً إلى العلاقة غير المتكافئة بين الدولتين، فتصرفات السفيرة الأميركية تدل على أنها على علمٍ مسبق بأن السلطة السياسية لا تجرؤ على اتخاذ قرار كهذا، وخصوصاً في ظل الحصار الاقتصادي الذي تمارسه دولتها على لبنان. وربما تكون قد تفاجأت بتمليح رئيس الحكومة حسان دياب، إلى التدخّلات الفاضحة في الشؤون الداخلية، وتجاوز الأعراف الدبلوماسية وعلاقات الأخوة والصداقة، ملوّحاً بإمكانية الانفتاح على الشرق كحلٍ بديل لأزمة الدولار المتصاعدة.

السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يأتي هذا الهجوم العلني على حزب الله في هذا الوقت، ومن السفارة الأميركية مباشرة؟ هل هو استكمال للحملة المنظمة لتشويه سمعة الحزب وتأليب الرأي العام ضده، أو أنه الورقة الأخيرة، في ظل الصَّبر المنظّم أمام التحديات منذ أواخر العام المنصرم؟

يكاد المشهد في لبنان يتطابق مع العراق من حيث توقيت بدء المطالبات الاحتجاجية المعيشية في تشرين الأول/أكتوبر 2019، ومن ثم دعم سفارتي الولايات المتحدة للتظاهرات في البلدين، والتركيز على أن حزب الله أو الحشد الشعبي هما المسؤولان عن تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في البلدين (طبعاً، نتحدث عن الشق الذي يعني عمل السفارتين واستغلال أي تحرك لصالح الأهداف السياسية، ولا نشمل كل المطالبات الشعبية المحقّة).

قد يكون السَّفير الأميركيّ في العراق، ماثيو تولر، أكثر تجاوزاً ووقاحةً من خلال التّصريحات أو النشاطات التي يظهر فيها بمظهر الحرص على مصالح الشعب العراقي، والتي وصلت حد إرسال رسائل تهديد إلى الكتل النيابية في حال عدم التصويت لحكومة الكاظمي، إضافة إلى  التدخل في تقييم الحكومة العراقية السابقة وكأن العراق ولاية ضمن الاتحاد الفيدرالي الأميركي، وإن بقيت حقيقة الرسالة مبهمة، من دون تأكيد أو نفي من السفارة الأميركية في العراق.

لكنَّ الأكيد أنّه لا يخفى على أحد في العراق حجم الدور الذي تؤديه السفارة الأميركية في التحريض على قادة الحشد الشعبي وفصائل المقاومة، سواء مباشرة عبر شخص السفير، أو من خلال المنصات الإلكترونية الناشطة والمؤثرة في المزاج الشعبي لدى شريحة لا يستهان بها من العراقيين الذين يحملون المنظار بعين واحدة، ففي الوقت الذي لا يعيب أحد الخرق السافر للسفير الأميركي للسيادة العراقية، وتجاوز حدود العمل الدبلوماسي (كما أسلفنا عند الحديث عن الإطار القانوني لعمل البعثات الدبلوماسية وفقاً لاتفاقية فيينا)، نجد حماة السيادة في العراق، كما في لبنان، يقيمون الدنيا وتشتعل التصاريح الغيورة على الوطن عند أي تصريح مضاد، أو إبداء رأي في الحرب على اليمن مثلاً، أو ضد "إسرائيل" والولايات المتحدة، على اعتبار أنه تجاوز للسلطات السياسية في البلدين، واعتداء على مركزية القرار السياسي، لكن لا بأس بأن نسمح للسفراء بتجاوز اللياقة والدبلوماسية إلى حدّ الوصاية والوقاحة!