المشروع الصهيوني اليوم.. مرحلة يعتبرها قادة الاحتلال مفصلية
ما بدأ يفصح عن نفسه في مسارات التنازل عن قضيّة فلسطين لم يكن طارئاً بل يلحظ في العلاقات العربية مع كيان الاحتلال والتي شقَّت طريقها منذ عقود وفضحتها مراكز الدراسات الصهيونية.
هل يمكن إعادة تفاصيل المشهد إلى ما قبل العام 1967؟ هل يمكن أن نعيد لحظة تأسيس منظَّمة التحرير الفلسطينية في القدس في العام 1964؟
كنا نفتّش عن أخبارها في الصحف القليلة، إن حصلنا عليها، ونبحث عن "بوسترات" فدائيّ يضمّ بندقيّته إلى صدره، ولم يكن يعنينا إلى أيّ فصيل ينتمي. كان الفدائيّ حارس الذاكرة، يوم أصبح المخيَّم هو الحكاية الَّتي تستعيد تفاصيل الهجرة والعودة والانتظار الطّويل لأمهات خبّأن دموعهنَّ في أكفّ الصباحات الدامية.
في قواعد الثورة الفلسطينية، يصبح الحلم حقيقة، وتدرك لحظتها أنَّ فلسطين ليست مجرَّد نشيد صباحي، وليست درساً جافاً في مادة الجغرافيا التي تتثاءب فيها الحدود، وترمي بظلالها على خنادق المقاتلين.
لم تسقط فكرة التحرير طيلة عقود الصّراع، ولم يتراجع المقاتلون الَّذين حفروا أسماءهم على بندقيات ورثها أبناؤهم فكرةً وانتماءً، ولم تستسلم فلسطين لمقولات "التعايش" وإنهاء حقّ العودة. إنها مسلَّمات يجب أن تكون في الصّدارة في مواجهة الرواية الصهيونية مبنى ومبنى.
وإن كانت مقولات "التعايش" قد أطلَّت برأسها بعد العام 1967، لتتصدَّر المشهد السياسي الرسمي العربي، وتجمّل طريق التفاوض مع كيان الاحتلال، فإنّ التباينات السياسية داخل منظمة التحرير الفلسطينية كانت كبيرة وجذريَّة. وقد شكَّل التراجع الجوهري عن التحرير الشامل بعد العام 1974 في برنامج منظَّمة التحرير الفلسطينية أولى الرصاصات التي هشَّمت منطلقاتها.
يمكن القول إنَّ ما بدأ يفصح عن نفسه في مسارات التنازل عن مركزيَّة قضيّة فلسطين، لم يكن طارئاً أو متذرّعاً بالقوة الأميركية "الأحادية" المهيمنة على المؤسَّسات الدولية، بل إنه يلحظ في العلاقات الرسمية العربية مع كيان الاحتلال، والتي شقَّت طريقها منذ عقود، وهو ما تنشره مراكز الدراسات الصهيونية، ويصرح به قادة الاحتلال.
من الطَّبيعي أن تحاول بعض الأنظمة الرسميّة العربيّة تبرير الانفكاك عن قضيَّة فلسطين وحقّ العودة بعد اتفاق "أوسلو" في العام 1993، لأنّها كانت قد مارست دوراً خطيراً من خلال العلاقات السرية مع "إسرائيل"، وأبرمت الاتفاقيات الاقتصاديّة والسياسيّة والأمنيّة السرية لتصبح علانية في ما بعد. وبالتالي، نحن أمام علاقات أصبحت فوق المصالح المشتركة، واتجهت إلى التحالف الاستراتيجي وتبنّي الخيارات الصّهيونيّة في "صفقة القرن"، التي تذهب إلى تصفية القضية الفلسطينيّة وحقّ عودة اللاجئين.
وليس غريباً أننا لم نشهد تحركاً رسمياً عربياً ضاغطاً يدين الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية والقدس، الأمر الذي يشير إلى أنَّ الدبلوماسية الرسمية العربية التي كانت تركّز في مؤتمرات القمم العربية على حل "الدولتين"، وعلى القرارت الدولية التي تنصّ على "دولة" فلسطينية في الضفة الغربية، كانت تتطلَّع إلى التّطبيع الشامل مع الاحتلال، وذلك هو جوهر حركتها السياسية.
ويمكن أن نقرأ في جوهر العلاقات "الإسرائيلية" مع بعض الأنظمة الرسمية العربيّة، سعيها إلى تأسيس ما يُسمى بالحلف "العربي" - الإسرائيلي لمواجهة إيران وسوريا والمقاومة الفلسطينية، للوصول إلى "تعايش" سلمي وشرعنة "إسرائيل" في المنطقة.
ويمكن أن نسجّل أنَّ خطوة ضمّ الأغوار والمستوطنات في الضفة الغربية، والتي تصل إلى ربع الضفة الغربية، أي ما يزيد على 40 في المئة من مساحة الضفة، لا تنفصل عن التشجيع الرسمي العربي وتبنّي الخطوة ودعمها. وبالتالي، تظهر الحقائق أنَّ التبنّي الكامل لضم الضفة الغربية إلى كيان الاحتلال، وكذلك تهويد القدس، يشكّلان الخطوة المتدحرجة في "صفقة القرن"، التي تمهّد للـ"ترانسفير"، ليكون الأردن الوطن البديل (وفق معدلات زمنية تدرس مع واشنطن).
لقد أكَّدت المعطيات السابقة، بعد أن أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس، واعتبارها عاصمة موحّدة لـ"إسرائيل"، أنّ الأنظمة العربية المشاركة في "صفقة القرن" طلبت التمهّل في إعلان مراحل الضمّ، وأن يكون بشكل تدريجي، وبالتالي تهيئة الأجواء داخل السلطة الفلسطينية للقبول بالحلّ النهائي لـ"فلسطين الجديدة"، التي تشكل 6 في المائة من مساحة الضفة الغربية المحتلة، أي لا تتجاوز مساحتها 800 كم 2.
قد يذهب نتنياهو إلى ضمّ الأغوار والمستوطنات في الضفة الغربية، وهذا ليس طارئاً في السياسة الاستيطانية الصهيونية، وهو لن يراعي شركاءه في الاتفاقيات الأمنية، الأمر الذي سيشكّل خطراً على حكم الملك الأردني الَّذي يدرك الخطورة القادمة على كيانه.
إذاً، نحن أمام تطوّرات تكاد تكون الأخطر في عمر الصّراع العربي - الصهيوني. وقد وصل المشروع الصهيوني إلى مرحلة يعتبرها قادة الاحتلال مفصلية في ضرورة الإعلان الكامل عن الخطوات النهائية لصيغة "الحل النهائي"، وعلى السلطة الفلسطينية أن تخضع للأمر الواقع، بألا "دولة" فلسطينية، ولا قدس، ولا عودة للاجئين!
السؤال الأكبر هنا: هل هناك أكثر سوداوية من هذا المشهد الذي يلخّص تطلّعات حكومة نتنياهو- غانتس المدعومة من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب؟
لم يراهن الشّعب الفلسطيني طيلة سنوات الصراع على "التسوية" التي أدمته. وقد قاوم مشاريع الاستيطان، وتشبَّث بأرضه في القدس والضفة، ودافع عن هُويته في فلسطين في العام 1948، ولم يستسلم للحصار القاتل على غزة. وبالتالي، فإننا أمام مشهد سيكون مفتوحاً على كل الاحتمالات.
أما المراهنة على الوقت والتدخّل الأوروبي وبيانات الشجب، فإنها مجرد أوهام لن تقدّم أو تؤخّر في الضمّ.
إنَّ المطلوب هو العودة إلى قراءة الحالة الفلسطينية قبل العام 1967، وكذلك مراجعة مشاريع الاستيطان التي نفَّذتها الحكومات الصهيونية المتعاقبة، بدءاً بليفي أشكول وإيغال ألون، وصولاً إلى نتنياهو.
لم يحصل الشعب الفلسطيني طيلة عقود "التفاوض" على قطعة أرض صغيرة، ولم يزل الاحتلال بؤرة استيطانية واحدة وفق سياسة "الورود والخطابات". وحدهم أهل القدس وأبناء الضفة والمقاومة في غزة من فرضوا معادلة الرعب على كيان الاستيطان.
لا رهان على التفاوض والاستجداء السياسي. لا رهان على تقسيمات أوسلو A_B_C. الرهان فقط على عودة منظمة التحرير الفلسطينية إلى مربّعها، ومعها صورة الفدائي الذي نعرفه.
ويبقى الرهان على الصمود الفلسطيني والمواجهة المسلحة... الرهان على المقاومة التي لن تورث الهزيمة للأجيال القادمة.