الربيع الأميركي وانعكاساته على العرب
لم تُتح للشعوب العربية في تاريخها الطويل فرصة حقيقية لإعلان ثورة شاملة مثل اليوم، وإذا ضاعت الفرصة هذه المرة، فلا يعلم المرء متى يمكن أن تُتاح مرة أخرى.
عندما يتأمل المرء في الوضع الحالي لأميركا "الترامبية"، وهذه النهاية التي تناسب شخصيته وسياسته، فلا مفر من تسجيل "انتقام" القدر من الظالمين، مهما كانت قوة جبروتهم وتوهمهم بأن سلطانهم ليس فوقه سلطان.
بعدما أوصل ترامب أميركا إلى حافة الإفلاس الأخلاقي، نظراً إلى شخصيته المتعجرفة وأسلوبه الذي يفوق أسلوب قطّاع الطرق في أفلام "رعاة البقر" الأميركية، وضربه بعرض الحائط كل لباقة ديبلوماسية وسياسية، وزرع البلبلة في كل أطراف العالم، ها هو يزرع الفوضى والحقد والعداوة والتفرقة في أميركا نفسها، بالنفخ على الجمار الملتهبة للعنصرية التي كانت مختبئة تحت رماد المجتمع الأميركي.
وبهذا، يدكّ ترامب دكاً سياسة سابقيه في إشعال ما كانوا يسمونه "ربيع الثورات"، أي العمل على زرع الفوضى في صفوف الشعوب الأخرى، وخصوصاً العربية، مُوصلاً هذه السياسة إلى أميركا ذاتها.
وصل "ربيع الثورات" إذاً إلى الولايات المتحدة في عز تراجع ثورات "الربيع العربي" مثلاً، وتعويضها بثورات مضادة، وكأنها لم تكن إلا ثورات تجريبية، ليتيقَّن الإمبريالي الغربي من استمرار قوته وقدرته على التحكم برقاب الشعوب المغلوب على أمرها.
وبهذا يصح المثل الدارج: "من حفر حفرة لأخيه سقط فيها". وللربيع الأميركي نكهة خاصة، لأنه نبع من الداخل الأميركي بطريقة عفوية، نظراً إلى توفر شروط موضوعية كثيرة ومعقدة، ومنها على وجه الخصوص ثقافة العنصرية المنتشرة في الإدارة الأميركية منذ وجودها، والوضع الاقتصادي الهش لأكثر من مئة مليون أميركي، أي أن كل شخص من أصل ثلاثة في أميركا يعيش ظروفاً اقتصادية صعبة، بخلاف ما تغنى به ترامب على الدوام بأن الاقتصاد الأميركي في عهده قلص نسبة العاطلين من العمل إلى نسبة مئوية مهمة جداً.
أما على صعيد الخدمات الاجتماعية لأغنى بلد في العالم، فحدّث ولا حرج، فالأميركيون الذين انقطعت بهم السبل، فقدوا كل شيء يضمن حياة اجتماعية كريمة، بما في ذلك السكن والعمل والتغطية الصحية والحصول على غذاء متوازن ويومي.
ولا يقتصر هذا الأمر على الزنوج واللاتينو من الأميركيين والمهاجرين، بل يهم أيضاً عدداً كبيراً من الأميركيين البيض، لسبب بسيط هو أن التوربو Turbo ليبرالية لا تعترف ولا تخدم إلا الأثرياء، معتبرة ما دونهم إما خدماً وعبيداً لهم في أحسن الأحوال، أو "قمامة بشرية" غير مرغوب فيها، لأنها تشكل عائقاً في طريقها وتلطّخ سمعتها.
من خصائص الربيع الأميركي، على الأقل من خلال مشاهدة صور الفضائيات العالمية المختلفة، هو انخراط فئات اجتماعية مختلفة فيه، بما في ذلك الطبقات المتوسطة، ومشاركة إثنيات وأعراق وألوان مختلفة فيه. وبهذا، نجح ترامب في توحيد "البروليتاريا" الأميركية للدفاع عن مصالحها وحقها في الحياة، معرضة نفسها للعدوى بفيروس كورونا، وكأن لسان حالها يقول: "اللهم كورونا ولا حكم النذل فينا".
انفجرت نرجسية ترامب، التي كانت بالأمس القريب تُمارس سلطتها على عموم العالم بشخصياته ووجهائه - لا أدري أي زعيم دولة لم ينل حظه من الكلمات النابية لترامب - ولم تعد ترى في عماها الأنطولوجي إلا ظلها، حيث بدأ يعض يميناً وشمالاً، حتى فِي مَن كانوا بالأمس "أحباءه" ومناصريه، ممن انتقدوا سياسته الحالية تجاه الشارع الملتهب بنيران "ثورة أميركية حقيقية" للأسبوع الثاني على التوالي.
ومن عادة ترامب، ككل النرجسيين، البحث المضني عن كبش فداء، ومن يدري أنه سيقول غداً أو بعد غد بأن الصين أو إيران أو أثيوبيا، ولمَ لا "إسرائيل"، وراء هذه التحركات الجماهيرية في شوارع أميركا! وبأنها تدسّ "بلطجية" في صفوف المحتجين، لزرع الفوضى والقيام بعمليات "إرهابية".
نهاية ترامب حتمية، ولو افترضنا عبثاً بأنه قد يفوز بولاية ثانية، وهي ليس فقط نهاية، فقد انتهى فيه كل ضمير إنساني، أو تأكد هذا الانتهاء، بتعامله مع الشعب الأميركي نفسه.
وعلى اعتباره "المُعلِّم" الأول لممالك النفط في المنطقة العربية، بل مُطَوِّعهم بالسوط والعصا، فلا غرابة أن عروش هذه الممالك أصبحت تتزعزع أكثر من أي وقت مضى، وأصبح اللهث وراء العثور على جحر يضمنون فيه حجرهم السياسي واضحاً، فبقدر ما فتن ترامب الديكتاتوري العربي، فإنه زرع في نفسه الخوف والرعب، لأن حساباته ليست منطقية، بل احتمالية، ولا يعرف المرء كيف سيتصرف ولا كيف سيكون رد فعله.
إن الوجه الديكتاتوري الحقيقي له اتضح بما فيه الكفاية، وهو الوجه الذي كان يهم في المقام الأول الحاكم العربي الظالم تجاه مواطنيه وتجاه دول أخرى، فالمجازر الدموية بحق الشعوب العربية حالياً في سوريا واليمن وفلسطين والعراق، تروي عطش "الحكام العرب من آل نفط" للدماء العربية، التي شجع ترامب على إهراقها مقابل حفنة من الدولارات، لأنه لا يؤمن بشيء آخر من غير ذاته والدولار.
ومن بين الانعكاسات الممكنة لتعرية الوجه الحقيقي لترامب في أميركا على يد "ثوار أميركيين"، هو انتعاش إرادة الشعوب العربية، وفتح عيونها على حالها، ورفض الظلم والذل الذي تعيش فيه منذ أجيال، فإذا كانت الثورة ممكنة في أميركا، رغم ديكتاتورية رئيسها، فإنها ضرورية في العالم العربي، رغم أدوات القهر وأساليب الظلم التي تنتهجها نخبها السياسية والاجتماعية والثقافية.
اجتمعت كل الظروف حالياً ليستيقظ الشعب العربي من المحيط إلى الخليج، ليُنتج حركات احتجاجية شعبية نوعية، قوامها السلمية، وهدفها تغيير الحاكم الظالم.
ولعل هذه الظروف متوفرة أكثر في "ممالك آل النفط"، لأن زمن "الرفاهية" وشراء كل أدوات قمع الشعوب قد انتهى، ووجد الخليجيون أنفسهم أمام قصور من رمال، بعدما شحن ترامب ما كان بوسعه شحنه من عائدات البترول، الذي لم يعد ضامن ثروة عائلات "آل نفط"، التي لم تستثمره في رفاهية شعوبها وتهيئهم مادياً ومعنوياً لمرحلة ما بعد النفط، بقدر ما أسرفت وصرفت هذه العائدات على مصالحها الشخصية ومصالح المقربين منها.
والحق يُقال، لم تُتح للشعوب العربية في تاريخها الطويل فرصة حقيقية لإعلان ثورة شاملة مثل اليوم. وإذا ضاعت الفرصة هذه المرة، فلا يعلم المرء متى يمكن أن تُتاح مرة أخرى، فـ "ثورات الربيع العربي" المُصطنعة لا بد من أن تُعوض بثورات شعبية حقيقية تغير الوضع القائم، لأن كل وضع قادم هو أصلحُ للأمة العربية من هذا الوضع الذي لا يخدم إلا ظلم حكامها واستغلالهم لشعوبهم وحرمانهم من ثرواتهم الوطنية، فالمقاومة من أجل هذه الثورة، وإشعال فتيل ثورة حقيقية من أجلها، شيء مشروع، بل مطلب على الشعب تحقيقه، إن كان يريد أن يستحق بالفعل تسميته شعباً، وإلا ستطول مدة اعتباره "رَعية" - في حالة عبودية - تعيش على هبات حاكمها.