من رصانة مراكز الأبحاث إلى جنون ترامب.. مخطّط واحد للتصفية
ما تدبّره مراكز الأبحاث وبنوك الأفكار أشدّ خطورةً على القضية العربية الفلسطينية من الفقاعات الإعلامية الصاخبة والمترافقة مع كاميرات التلفزة.
ما من إحصائيّة يمكن اعتمادها فلسطينياً لعدد العاملين مع مؤسّسات "NGOs" وأعداد المستفيدين من الخدمات التي تقدّمها للمواطنين. وقد يكون لدى البعض جهل بخطورتها، غير أنّ الخطر الأكبر يتعلق بامتداداتها الخارجية، بحكم ما تتلقّاه من تمويل تعجز المؤسّسات الحكوميّة عن ضبطه وتتبّع مساره وآليّة صرفه، لا فلسطينياً فقط، بل في المؤسّسات المموّلة الكبرى في بلدانها أيضاً، غير أنّ ما يعنينا هنا هو شرعيّة هذه المنظّمات، وما تتركه من أثر لدى الشّعب العربيّ الفلسطينيّ.
بدايةً، يجب الإشارة إلى تعدّد العناوين التي تصنّف المنظّمات وفقاً لها، إذ إنّ جميعها يأخذ المسمّى نفسه "NGOs". إنّها من ناحية التعريفات الدّولية مقسّمة إلى ما يشبه القطاعات، ويتجاوز عددها العشرة، ولكلّ منها تعريف خاصّ بطبيعة مشاريعها، إلا أنَّ الوضع في فلسطين متداخل جداً، إلى الحدّ الّذي يحتاج تصنيف كلّ مؤسّسة محليّة أو أجنبيّة عاملة في الأراضي العربيّة الفلسطينيّة إلى مبحث آخر باستفاضة.
تحوّلت منظّمات "NGOs" المحليّة إلى ميسر لبنوك الأفكار الأميركية والألمانية وغيرها من مصادر التمويل. وهناك من يبرر العمل مع المنظّمات المموّلة، بحجة الوضع الاقتصادي الخانق، وهذا ليس أكثر من حالة من النكوص والقابليّة للتحوّل إلى أداة تحرف بوصلة العمل النضالي التحرري عن مساره السليم، فالوضع الاقتصادي سببه الاحتلال، والأوْلَى الانخراط في مشروع تحرّري، لا العمل على تحويله وتحويل الصراع معه إلى قضيّة إنسانيّة مطلبيّة تأخذ عناوين حقوق الإنسان والتمكين والعدالة الاجتماعيّة. والمفارقة أن يُطلق مشروع بعنوان المشاركة السياسية، في الوقت الذي يعتقل الشباب لانتماءاتهم الحزبيّة.
وبما أنّ المشهد السّياسيّ الراهن زاخر بالمشاريع التسوَوية للصراع العربي الصهيوني، وليس آخرها ما سمي "صفقة القرن"، ومشاريع الضم وغيرها من المشاريع، التي لو بحثنا جيداً، لوجدنا أنها كانت مجال بحث أو دراسة أعدّت من خلال إحدى هذه المنظمات الأهلية غير الحكومية.
ولتقديم نموذج من نماذج هذه المشاريع وردود الفعل حول إعلان ترامب لما سمي "صفقة القرن" كمشروع تصفية، اختيرت "RAND"، التي تعدّ من أخطر وأقدم المؤسّسات الأميركيّة التي أدت، وما تزال، دوراً من شأنه خدمة الأمن القومي الأميركي وتقديم الرؤى والبرامج التي تخدم مشاريع الهيمنة، منذ حقبة الحرب الباردة وحتى احتلال العراق ووصول بريمر إلى بغداد، إذ كانت صاحبة الأجندة الرئيسية ومعدّة الخطط والمشرفة على تنفيذها.
واستطاعت "rand" أن تقنع مؤسَّسات السلطة الفلسطينية بتوفير غطاء لعملها عبر المراكز المحلّية، والتي أبدت من خلال القائمين عليها رفضها خطّة تصفية كانت مؤسّساتها من أدواتها للأسف!
تحت عنوان "القوس/بنية منهجية لدولة فلسطينية"، ورد موجز لبحث نشرته مؤسسة "RAND" في العام 2005 وجاء في نتائجه الرئيسيّة ما يلي:
1- قد يبلغ عدد سكّان الضفة الغربية وقطاع غزة 6,6 مليون نسمة بحلول العام 2020، ما سيثقل كاهل البنية التحتية لدولة فلسطينية تحمل بنيتها التحتية الحالية أعباء طائلة.
2- قد ينشئ ممرّ من البنية التحتية يربط الضفة الغربية وقطاع غزة ظروفاً للتّنمية الاقتصادية والنمو المستدام في عدد السكّان، إضافةً إلى شعور مشترك بالغاية.
3- إن الممرّ المسمّى أيضاً بـ"القوس" سيدعم خطاً سريعاً للسكك الحديدية بين المدن، وطريقاً عاماً برسوم مرور، وقناة لجر الماء، وشبكة للطاقة، وخطوطاً للاتصالات السلكية واللاسلكية للربط بين أكبر البلدات والمدن الفلسطينية.
4- ستفتح جادات تربط محطات القطار بالبلدات ومناطق السكن والنشاطات التجارية الجديدة.
5- يدعم مفهوم القوس التّنمية المستدامة وتخصيص المساحات المفتوحة للزراعة والمنتزهات والمحميات الطبيعية.
6- سيكلّف بناء البنية التحتية الأساسية للقوس نحو 6 بلايين دولار أميركي، وسيوظف أكثر من 100,000 فلسطيني على مدى 5 سنوات. (انظر الخريطة رقم 1 والخريطة رقم 2 من "RAND" 2005، "القوس بنية منهجية للدولة الفلسطينية").
ويتحدَّث الموجز عن الكثافة السكانية في قطاع غزة واللاجئين، لكن "RAND" ومن عملوا على إعداد تقريرها، يرون أنَّ عودة اللاجئين من سوريا ولبنان والأردن قد تمنح الحكومة الفلسطينية شرعية، وقد يكون ذلك بمثابة تحدٍ لها ويحمّلها أعباء إضافية.
ويتلاعب معدّو التقرير بالمصطلحات التي من شأنها أن تجعل من قضية عودة اللاجئين من الدول سالفة الذكر محصورة بالفقراء منهم، كما تقترح استيعابهم وتوزيعهم على مدن الدولة الفلسطينية المقترحة، أي أن لاعودة للاجئين إلى مدنهم وقراهم التي هجّروا منها في العام 1948، مع الحرص على أن لا يتسبّب ذلك بمنافسة على الوظائف بينهم وبين من تسميهم "RAND" السكان الأصليين! كما لم يغب عن التقرير التأكيد والحرص على أنَّ خلق الفرص الاستثمارية للقطاع الخاص سيخفّف من هذه المنافسة.
والمطّلع على بنود "صفقة القرن" سيلمح لغة مشتركة بين بنودها وبنود بحوث "RAND"، وخصوصاً في تقرير آخر لها حمل عنوان "بناء دولة فلسطينية ناجحة".
وقد جاء فيه أنّ مكوّنات الدّولة الفلسطينيّة النّاجحة هي أن تكون آمنة، يحسّن إنشاؤها مستوى الأمن للفلسطينيين والإسرائيليين، وأن تحكم بفعاليّة ويقرّ كل مواطنيها والمجتمع الدولي بشرعيتها، وتكون قابلة للنمو الاقتصادي، وتعتمد على نفسها مع مرور الزمن، وتكون قادرة على تأمين الرفاه الاجتماعي، من غذاء ولباس وتعليم وصحة.
وإذا ما أخذنا شرط أو ما سُمي بمكوّن "آمنة"، نجد أنه، وتحت عنوان أولوية الأمن، بحسب إعلان "صفقة القرن"، وفي البند الرابع منه، ورد: "من الضّروري أن تكون الدّولة الفلسطينيّة التي تمّ إنشاؤها بموجب اتّفاق سلام، لديها الأدوات اللازمة للنّجاح، وأن تكون سلميّة وآمنة، وليست منصّة لعدم الاستقرار".
أمّا مكوّن الحكم بفعاليّة، فلا يختلف عما سمي في التقرير "نتائج رئيسية بعنوان الحاكمية". وفيه يلخص معايير جاءت في بنود "صفقة القرن" أيضاً، بعنوان أسس الدولة الفلسطينية، إذ تقول "RAND" إن الشرط الأساسي للحاكمية الجيدة هو إقرار الفلسطينيين بشرعية قادتهم وبفاعليتهم، وذلك بالاعتماد على بنود تسوية السلام النهائية وممارسة الحكومة الفلسطينية، كذلك مكافحة الفساد وضمان النمو الاقتصادي وتعزيز سيادة القانون، وهو يتطابق مع ما ورد في القسم السابع عشر من بنود "صفقة القرن" بعنوان أسس الدولة الفلسطينية.
ومن اللافت اختيار مؤسّسة أميركية تصنّف كدبابة فكرية، وترتبط تاريخياً بوزارة الدفاع الأميركية، على الرغم من تصنيفها كمؤسسة غير ربحية، لها العديد من الأبحاث والدراسات حول الصراع، مع تجاهل قضية اللاجئين الفلسطينين، وتتناول الصراع في سياق يخدم المصالح الأميركية والصّهيونية. وقد اختير التقريران السابقان لمطابقة ما ورد فيهما وما جاء في بنود "صفقة القرن"، ويمكن ملاحظة ذلك في الخارطتين اللتين صدرتا عن "RAND" والخارطة التي جاءت في بنود "صفقة القرن".
في العام 2008، نشرت "RAND" تقريراً بعنوان مساعدة دولة فلسطينيّة على النجاح، ورد فيه أنَّ المؤسّسة تعمل منذ العام 2002 على تطوير خطة شاملة، يداً بيد مع فلسطينيين وإسرائيليين والمجتمع الدولي، لبناء الدّولة. قد يدغدغ هذا القول أصحاب رؤية حتمية السلام مع "إسرائيل"، بحجة البحث عن كيانية ضيقة لن تكون إلا على حساب الأرض والإنسان العربي الفلسطيني وإهدار حقوقه التاريخية.
بين إعلان ترامب لما سُمي "صفقة القرن" ووثائق "راند" أكبر من مشتركات، بل ومن خلال استعراض ما جاء في كليهما حول قضية اللاجئين والاقتصاد والقدس والحدود والنقل، نجد أنّ "راند" ليست صاحب المسودة للمشروع فقط، بل المرجع الأول والمتابع له خطوة بخطوة.
والمتتبّع للإعلان والوثائق سيجد أنّ قضايا، كاللاجئين والحدود والنقل والأكلاف الاقتصادية، هي من صلب أوراق "RAND"، مع تغيير بسيط في شكل طرح إعلان ترامب، إذ دلّ على استيعاب اللاجئين من قبل الحكومة الفلسطينية بالدولة المستقبلية، كما كان حال من أسماهم اللاجئين اليهود الذين طردوا من الدول العربية بعد إعلان قيام "إسرائيل".
ليس غريباً ولا مستهجناً أن تصدر "RAND" وثيقة تبرهن من خلالها على دور أخطر لمؤسّسات المجتمع المدني الفلسطينيّة والمنظّمات المموّلة، فهي تذكر في تقاريرها دوماً أسماء الأشخاص والجهات الذين يمثّلونها بالمساعدة في إنجاز بحوثها التي توضع على طاولة صانع القرار الأميركي خدمة لحليفه الإسرائيلي. وكمثال على ذلك، يأتي تقرير تصنّفه المؤسّسة الأميركيّة من تقاريرها المميّزة، حمل عنوان "ما هي العوامل التي تدفع الشباب إلى رفض التطرّف العنيف؟ نتائج تحليل استكشافي تم إجراؤه في الضفة الغربيّة"، أسهمت فيه مؤسّسة محليّة أشادت "راند" بجهودها، معلنةً أسماء المشاركين، من دون أن تدرك تلك المؤسَّسة المحلية خطورة مقاربة "راند" للمقاومة الفلسطينية المسلّحة للتنظيمات الإرهابية، معتبرةً ذلك شكلاً واحداً للتطرف، إضافةً إلى تركيز الدراسة على المقاومة السلمية التي شاهدنا نماذج منها على مدى العقدين السابقين، والمنخرطة بشكل مباشر وغير مباشر بفكرة المساواة بين المكوّن الفلسطيني والمكوّن الصّهيوني داخل المجتمع الواحد، مع تجاهل فكرة الاحتلال تماماً.
من هنا، نرى الأثر البالغ لمؤسَّسات "NGOs" التي يتزايد عددها بشكل مطرد، وينعكس مشروع مموّليها على تغيّر المزاج العام لدى الشّباب ووسائل مواجهته للاحتلال، بل وإبعاده عن أيّ مشروع جدّي للتحرّر، بغمسه في قضايا معيشيّة يوميّة تعمل على تحويله إلى ناشط يتحدّث بلغة أُمليت عليه من هناك، حيث مكتب المموّل. وقد وصلت هذه اللغة لتحويل النّضال لتحرير الأسرى، إلى النّضال لتحسين الشّروط داخل المعتقلات وفق منظور الصّليب الأحمر والمموّل.
خلاصة القول أنَّ ما تدبّره مراكز الأبحاث وبنوك الأفكار أشدّ خطورةً على القضية العربية الفلسطينية من الفقاعات الإعلامية الصاخبة والمترافقة مع كاميرات التلفزة، فمن السذاجة الاعتقاد بأنَّ القوى العالمية المهيمنة تنتظر طفرة في تاريخ الولايات المتحدة كترامب، لتقدم حلاً لصراع يسعى الأميركيّ منذ كامب ديفيد لإنهائه، كي يتسنّى له تنفيذ مشروع الهيمنة الكاملة على منطقة الوطن العربي.