قد يحين الوقت ولا نحتاج إلى حربٍ كبرى.. نهاية "إسرائيل"
إنه أحد السيناريوهات الواقعية و"غير الخيالية". تتغيّر ظروف المنطقة لصالح قوى المقاومة. يضعف الأميركيون. يجمع الإسرائيليون أغراضهم، ويمضون من دون حرب. هذا سيناريو واقعي، وليس حلماً أو خيالاً.
عند سماع هذا الكلام من أهم قيادات المقاومة في المنطقة، وأبرز خصوم العدو الإسرائيلي، الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرالله، في الذكرى العشرين لتحرير الجنوب اللبناني، وهو المعروف بدقّة انتقائه لعباراته، يتبادر إلى ذهن المتلقّي ألف سؤال عن إمكانية تحقق هذا السيناريو في ظلّ الأوضاع الراهنة:
هل يمكن أن نرى يوماً الصهاينة الّذين تجمّعوا من كلّ أصقاع الدنيا في دولة الحلم اليهودية يتخلّون عنها، ويتركون أرضاً احتلّوها، وهم من يحملون التوسع والاستيطان شعاراً من أجل البقاء!
ما هي حظوظ هذا الاحتمال في أن يصبح حقيقةً وواقعاً، وخصوصاً أن الحديث اليوم يأتي في ظلِّ تراخٍ عربي واستسهال في التعامل مع "دولة إسرائيل" كواقع لا يمكن الهروب منه؟ وبالتالي باتت الدعوة إلى إقامة علاقات سياسية وغيرها غير مستغربة عند العرب، مقارنة بالجو السياسي والاجتماعي الرسمي والشعبي في الأعوام التي شهدت الاحتلال الإسرائيلي لدولة فلسطين في العام 1948 وتلتها.
المفارقة أن الاستهجان لدى أي مواطن عربي، من أي دولة، يطرح فكرة الاعتراف بـ"إسرائيل"، وليس "الصلح" معها، في تلك الفترة، يوازي استهجاننا اليوم لفكرة زوال "إسرائيل"، بعد مرور كل هذه السنين على الصراع العربي - الإسرائيلي، الذي بات صراعاً فلسطينياً - إسرائيلياً، ما خلا حركات المقاومة والأوفياء للقضية.
يقين السيد نصرالله بحصول هذا الأمر يستند إلى عاملين خارجي وداخلي. يرتبط الأول ببقاء القوات الأميركية في المنطقة، بصفتها عرّاب الكيان المصطنع والحامي له، ويقوم الآخر على مجتمع غير متجانس يجمع هويات مختلفة غير مندمجة في محيطه الجغرافي.
بعيداً من النقاش حول الدور الأميركي في حماية "إسرائيل"، والارتباط الوجودي بين هذا الكيان وقدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على مكانتها كقوة عظمى في العالم في نظام أحادي القطبية، كما كان سائداً، وقبل الولوج إلى الداخل الإسرائيلي لمعرفة مدى تماسك هذا المجتمع وقدرته على الصمود بعيداً من الدعم الخارجي، نقف عند سؤال مفصلي: هل توجد أدلة من تاريخ الأمم حول إمكانية تحرير فلسطين من الاحتلال وإعلان استقلال الدولة الفلسطينية، بعد تهجير ما يقارب الثلثين من شعبها، ومنعهم من حق العودة إلى الوطن، وبعد القتل والجرائم المستمرة بحقهم، بعد تخلي البلدان العربية عن دعم القضية الفلسطينيّة، واعتبارها قضيّة منسيّة مع مرور الزمن، ووصول الحد بالبعض إلى تبرئة الجاني من دم القتيل!؟
من يرجع بالذاكرة إلى العام 1984، مع تشكيل نواة حزب الله، وما تلاه، ويسمع عبارة "إسرائيل سقطت" من السيد عباس الموسوي، الأمين العام السابق لحزب الله، في ظروف صعبة للمقاومة وقوتها المتواضعة آنذاك، يعتبرها ضرباً من الخيال، فـ"إسرائيل" كانت في أوج قوتها عندها، لكن مع تحرير الجنوب في العام 2000، أدرك الفلسطينيون قبل العرب أن الطريق الوحيد للتحرير يمر عبر المقاومة. العامل الأول تحقق إذاً، وهو الإيمان بالقضية والتمسك بالحقوق، من خلال نجاح التجربة اللبنانية القريبة من الحدود.
تكاد فلسطين تكون الدولة الوحيدة في العالم التي ترزح تحت الاحتلال العسكري في وقتنا الحالي، لكنها لم تكن الوحيدة في المعاناة من الاحتلال. الاحتلال العثماني للوطن العربي دام 4 قرون. وفي نهاية المطاف، غادر المحتل إلى بلاده، لأن إرادة الشعوب فرضت عليه المغادرة.
قد يختلف النموذج الإيرلندي الشمالي والاسكتلندي عن النموذج الفلسطيني، في كونهما تحت الوصاية البريطانية، وليس الاحتلال العسكري المباشر، كما هو حال فلسطين اليوم. وعلى الرغم من الجرائم البريطانية كدولة احتلال، فلم يتمّ تهجير شعب هذين البلدين، لكن ومع توقيع اتفاقية سلام بين بريطانيا وإيرلندا الشمالية في العام 1998، والتي قدمها رئيس الوزراء البريطاني آنذاك توني بلير، إلا أن إيرلندا الشمالية لا تزال غير مستقلة.
إلى الآن، يعيّن رئيس الوزراء البريطاني وزير الدولة لشؤون إيرلندا الشمالية، بوصفه واحداً من أعضاء وزارته، وبالتالي لا يمكننا القول إن إيرلندا الشمالية دولة مستقلة وذات سيادة كباقي الدول. ويعود السبب الرئيسي إلى الخلاف التاريخي بين البروتستانت والكاثوليك على الحكم في إيرلندا. هذا الصراع بين الفئتين مكَّن بريطانيا من إحكام قبضتها على إيرلندا الشمالية، وجعلها مقاطعة تابعة لها، على الرغم من عمليات الجيش الإيرلندي السري كمقاومة ضد الاحتلال البريطاني، والذي استمر حتى الثمانينيات من القرن العشرين.
أمّا اسكتلندا التي صوّت شعبها بنسبة 55% للبقاء ضن المملكة المتحدة في العام 2014 في أول استفتاء للاستقلال، فكانت قد نالت الحرية لبعض الوقت من الحكم البريطاني على يد القائد الثوري ويليام والاس في العام 1297 بعد هزيمة الجيش البريطاني في معركة ستيرلينغ، لتعود بعد إعدامه بـ23 عاماً إلى توقيع اتفاقية إيدنيبورغ في العام 1328 مع بريطانيا، لتأطير الوصاية البريطانية قانونياً مع حكم ذاتي لاسكتلندا، ثم طوّبت اتفاقية بيرويك في العام 1357 هذه الوصاية لتخمد نيران المقاومة الاسكتلندية إلى يومنا هذا. "250 ألفاً وراءنا يشاركون في المسيرة من أجل الاستقلال"، تغريدة للنائب عن الحزب القومي الاسكتلندي، جوانا تشيري، بعد تنظيم الحزب مسيرة من أجل استقلال اسكتلندا في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 2019.
بعد هذا الاستعراض التاريخيّ لهذين البلدين، نخلص إلى نتيجة مفادها أنَّه على الرغم من كل هذه السنين التي مرت على احتلالهما، وعلى الرغم من الحياة السياسية المستقرة فيهما، ومن دون احتلال عسكري، فإنَّ التوق إلى الحرية والاستقلال ما زال يعيش في نفوس الوطنيين من البلدين، وقد يتحقق يوماً ما.
والأمر بالنسبة إلى الفلسطينين ربما أقرب، لكون المقاومة الفلسطينية تزداد قوة يوماً بعد يوم، على عكس الاسكتلندين أو الإيرلنديين، الذين سلموا بلادهم وانطفأت شعلة المقاومة. قد يقول قائل إن هذا الكلام بعيد كل البعد، ولا مجال للمقارنة بين بريطانيا التي تمارس سلطة الوصاية و"إسرائيل" التي تمارس الاحتلال المباشر، وتسعى إلى استبدال شعب بشعب.
الجواب يكون بسؤال أيضاً: هل استطاعت قوة الاحتلال الإسرائيلي بعد كل هذه السنين أن تسبتدل شعباً بشعب؟ هل استطاعت أن تمحو الثقافة الفلسطينية والإرث الفلسطيني؟ هل استطاعت، من خلال ما عرف مؤخراً بـ"صفقة القرن"، أن تنتزع توقيعاً فلسطينياً واحداً على بيع القضية الفلسطينية والرضوخ لإرادة المحتل؟ الجواب على الجواب: بالطبع لا.
أما الشّعب الّذي من المفترض أن يستبدل بالفلسطينيين: هل يملك هُوية واحدة؟ هل يملك جنسية واحدة؟ هل ينتمي إلى هذه الأرض؟
رغم الواقع الذي يشي بدولة متماسكة، وبشعب ملتصق بحكومته، ومؤمن بأهداف الحركة الصهيونية التي أسّست لقيام دولة الكيان الغاصب على أرض فلسطين، فإن جوهر هذا الشعب وحقيقته تختلف عن ظاهره.
يتكوَّن المجتمع الإسرائيلي من 4 أنواع من المواطنين على أساس الهجرة والإقامة والولادة والتجنّس، وتعتبر الهجرة أحد أهم عوامل تشكيل المجتمع الإسرائيليّ، فكيف لمجتمع من المهاجرين أن يصمد في وجه شعب أصيل ما زال على أرضه؟
وليس صحيحاً أنه مجتمع ديني، إن لم تجمعه هُوية وجغرافية واحدة يجمعه الدين اليهودي، والدليل هو قانون الجنسية 1952، الذي تمنح بموجبه الجنسية الإسرائيلية لمن يقيم في "إسرائيل"، بغض النظر عن دينه.
ويواجه المجتمع الإسرائيلي أزمة وجودية في حسم الصراع الإيديولوجي بين الحريديم (المتدينين) والعلمانيين، فهل هي دولة مدنية علمانية قائمة على المواطنة أو دولة دينية قائمة على أساس الدين اليهودي؟
يبيّن استطلاع للرأي في 13 آذار/مارس 2011، أجراه معهد "داحاف" الإسرائيلي، أن 23% من الشباب الإسرائيلي يؤمنون بأن الانقسام بين المتدينين والعلمانيين هو التهديد الأكبر لـ"إسرائيل"، في ظل صعود متزايد لليمين المتطرف على حساب اليسار، إذ ارتفعت نسبة اليمين من 48% في العام 1998 إلى 62% في العام 2010، مقابل 12% من المؤيدين لليسار.
هذا التزايد انعكس زيادة في التطرف والعنصرية في المجتمع الإسرائيلي، الذي يعدّ في الأساس مجتمعاً قائماً على العنصرية تجاه المهاجرين، بحسب البلدان التي قدموا منها، فاليهود الفلاشا القادمون من أثيوبيا لم تعاملهم الحكومة كالسوفيات، فقد قامت الحكومة الإسرائيلية بعزل الفئة الأولى، بحجة الحفاظ على الأمن، وهم عانوا، ولا يزالون، من العنصرية في التعامل بالوظائف والخدمات، على عكس السوفيات الذين تم احتواؤهم للاستفادة من خبراتهم، والنتيجة كانت شعور عدم الانتماء عند يهود الفلاشا، على عكس يهود السوفيات الأسرع اندماجاً.
من جهة أخرى، يعاني المجتمع الإسرائيلي من صراع طبقي بين الأشكناز (اليهود الغربيين) والسفارديم (يهود الشرق). الأشكيناز هم الطبقة العليا في المجتمع، والطبقة الثرية والمهيمنة على المؤسسات السياسية والاجتماعية، على اعتبار أن المؤسسين الأوائل لقيام الدولة اليهودية وأغلب حكماء الصهيونية من الأشكناز، وبالتالي تسيطر النظرة الدونية على طبقة السفارديم، وهي الطبقة الأفقر، ومعظمهم من بلدان العالم الثالث والبلدان العربية.
صراع إيديولوجي، صراع طبقي، عنصرية. كلها قنابل موقوتة تزيد من عوامل تفكك أي مجتمع، كيف إذا كان هذا المجتمع غريباً عن محيطه، وعن الأرض التي أسّس عليها بنيانه المهزوز!؟ كم سنة يصمد مجتمع كهذا اجتماعياً، بعيداً من العوامل الخارجية التي تعتبر تهديداً وجودياً، ولو على المدى الاستراتيجي للدولة المصطنعة ككلّ؟ فلا ظروف النشأة تشبه الواقع السياسي اليوم، ولا المجتمع اليهودي المؤسس كحال المجتمع الآن الذي يتجه إلى العنصرية أكثر فأكثر، وخصوصاً منذ انتخابات الكنيست في العام 2009 وفوز اليمين بأغلبيته، والذي سنّ عبره العديد من القوانين التي تكرس العنصرية وتشتّت الهوية أكثر في تعريف اليهودي الذي لا يحمل إجابة موحّدة!
هذه العنصريّة التي انفجرت اليوم في الولايات المتحدة الأميركية بعد كلّ هذه السنين على قيامها، وهي الّتي تأسّست بالدم عبر إبادة السكان الأصليين، وقامت على مجتمع مهاجرين، لا بد من أن تنفجر في مجتمع هشّ وغير متماسك كالمجتمع الصهيوني، لكن الأرض هنا لا تشبه أرض الولايات المتحدة الأميركية، فالسكان الأصليون ما زالوا هنا على هذه الأرض ينتظرون تلك اللحظة، وهي مسألة وقت.