أميركا وهم الإنسانية

هي أميركا التي روّجت لنفسها أفضل صورة بين أمم الأرض وشعوبها، فغدت تغري المثقفين الحالمين بالهجرة إليها للعيش أحراراً فيها.

  • أميركا وهم الإنسانية
    مظاهرة في مينيابوليس تدعو إلى إصلاح الشرطة وتطالب بالعدالة لجورج فلويد (أ ف ب).

لطالما شكّلت أميركا صورة مثالية طوباوية في عالم التخلف الحضاري، وساد الاعتقاد أنها دولة عادلة ذات صبيب ديموقراطي عال، يتدفق حقوق إنسان، وقيم، وأخلاق دولة، ومساواة، وعدالة اجتماعية، ورغد عيش مرتكزاً على توفير الخدمات بعدالة اجتماعية مفرطة الوجود! تلك التي تعطي الإنسان قيمة لا توازيها أي قيمة، كيفما كانت، وتوفّر لمواطنيها كلّ حاجياتهم، وتحقّق رغباتهم، وتقدّر طموحاتهم. 

هي أميركا التي روّجت لنفسها أفضل صورة بين أمم الأرض وشعوبها، فغدت تغري المثقفين الحالمين بالهجرة إليها للعيش أحراراً فيها، كما تغري العاطلين من العمل لركوب المخاطر من أجل الانتقال إليها، طلباً لفرصة عمل ضامنة للرزق الرغيد والكريم، تحت سقف أكبر دولة في العالم! 

نعم، بعض التمثلات عنها صادقة وحقيقية ومعيشة في عالمها اليومي ولا ينكرها جاحد، ولكن كم من حكايات وتصورات غدت أساطير منسوجة حول أميركا وحضارتها العظيمة، وهي أوهام ونسيج خيال مفرط في السراب، فارغ من المعنى، ثقيل الظل، يسلب بعضهم أرواحهم عند أعتاب حدودها المغلقة في وجوههم؛ تلك الوجوه التي تأتيها من جهات الأرض الأربع، وخصوصاً الدول الفقيرة بفقر مدبريها وزعمائها المتحكمين برقابها بالعسكر والعسس والمرتزقة والجهال وأراذل خلق الله.

إن أميركا هي الدولة التي تروج عبر مختلف مؤسساتها لشجرة الأحلام الوارفة بأوراق الديموقراطية وحقوق الإنسان والتقدم التكنولوجي والصناعي والإلكتروني والعلمي والثقافي والحضاري والرفاهية الإنسانية... وتحرّض الشعوب لأجل ذلك، وتحفّزهم على تخريب أوطانهم بأنفسهم من أجل الحصول على تلك الأوراق، وتشعل الحروب بين الشعوب والدول، وتتربّع على عرشها منذ تأسيسها إلى يومنا هذا، وتقدّم النصائح للدول في شأنها، وتوصي بإرساء قيم الدولة الحداثوية فيها، وتؤطّر المنظمات العالمية والمحلية، وتوعز إليها بالتدخل في شؤون العالم كله، وتزعم لنفسها الريادة في مجال الحضارة الإنسانية، وتضغط على أصدقائها وأعدائها على حد سواء، مستفزة إياهم، ومستغلّة طغمتها المتحكّمة برقاب الخلق سياسياً واقتصادياً، وتنهب خزائن الدول والشعوب، بدعوى الحماية وتحقيق العدالة الدولية، إلى غير هذه الخزعبلات التي تفقد أية قيمة تصريفية وتداولية في سوق نخاستها. 

هي الدولة الكبرى التي أسقطت كل القيم النبيلة، وأهدرت قيمة الإنسانية الحقيقية، فأصبحت مجرد سلعة أو استهلاك يحقق لها الأرباح الطائلة، بالضغط تارة، وبالحرب تارة أخرى، ففي عز أزمة الأمم المرضية، كورونا، تضغط على الدول وشعوبها والمنظمات وفاعليها، وتنسحب من الاتفاقيات، وترمي إلى سلة القمامات كل التزاماتها الدولية، بمسوغات هشة لا تتساوق مع عظمتها المزعومة!

أميركا الدولة هي أكبر مارق من القانون الدولي، وهي التي أظهرت الأحداث الأخيرة وجهها الحقيقي الذي كان متوارياً خلف المساحيق والأقنعة الزائفة، ولكن هذا الزيف ليس وليد اليوم، وإنما هو متأصل فيها منذ نشأتها، فهي أكبر وأقوى دولة قامت على جماجم أهل الأرض الأصليين، فأبادتهم وثقافتهم، ولم يعد لهم سوى صدى وجود وشبه حضور. سرقت منهم الأرواح والأرض والثقافة والتاريخ والكينونة والهوية، فلم يعودوا سوى مواطنين من الدرجة الثانية في عالم المتحضرين المتشدقين بكل جميل!

هي أميركا الرجل الأبيض؛ السيد الذي جلب من استُعبدوا من أدغال أفريقيا للعمل في قراه وحقوله بالمجان، فقتل وشرد لأجل غايته قبائل أفريقيا وشعوبها، وأبقاهم في أسر العبودية وأقفاصها الحديدية والقانونية عقوداً طويلة وأزمنة مديدة. 

هي أميركا الرجل الأبيض، العرق الآري "النقي" الذي أشعل الحروب بمهاجريه وأبنائهم، وما زال، ليذهبوا فداء لبياض بشرته وجلده الذي يخفي روحه الشريرة التي تجوب العالم كله حاقدة على البشرية، قاتلة كل من يقول "لا" أو يرفع الصوت في وجهه طلباً لحق أو كرامة أو حرية أو استقلال، أو حتى الاختلاف عنه في العرق والثقافة والفكر والقيم والاعتقاد... فكل مخالف عدو حتى يثبت العكس. إنها ثقافة الاستقواء والاستكبار والطغيان على خلق الله! 

عجباً لأميركا الرجل الأبيض الّذي يحطم ما بنته الإنسانية خلال قرون وأجيال، وبعطاءات ومعاناة وتضحيات كبرى، برمشة عين، إشباعاً لرغبة التفيّل الرأسمالي والربح السريع على حساب المستضعفين والفقراء والمساكين الذين تعجّ بهم أصقاع الأرض!

ليس غريباً عن أميركا أن تكون كذلك، سواء في الداخل أو الخارج، لأن أصلها وفصلها من طينة أولئك المستعمرين الذين غزوا البلدان ونهبوها واستعبدوا شعوبها، فالاستكشافات الجغرافية الكبرى لم تكن بدافع ثقافي إنساني محض، وإنما كانت بدافع اقتصادي صرف. والاقتصاد بما يحوي من رأسمالية متوحشة، يقتل كل من يعترض طريقه في جني الأموال، فهو صاحب نظرية "مصائب قوم عند قوم فوائد "، ولا يمكن للمستعمر أن يعمر أرضاً خربة، ويبقى في أرض جرداء قاحلة لا تنفعه، ويسالم الضعيف إلا إذا أصبح قوياً أكثر منه...

لذا، وجدنا النظام الأميركي يهضم حقوق مواطنيه من مختلف الأعراق النازحة إليه، ومن مختلف الطبقات الاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية والإيديولوجية، ما لم تكن موالية له، خاضعة لإرادته، أو أقوى منه، كاللوبي الصهيوني، فهو يحطّم الإنسان القادم إليه ما لم يكن قوياً ومدعوماً بجماعة قوية مستأسدة! 

في عالم أميركا، تتجسد نظرية داروين "البقاء للأقوى وليس للأصلح"، وهي النظرية التي طبّقت على المواطن الأميركي الأفريقي جورج فلويد، وتبعه في العنف المؤسّساتي كل من دعا إلى العدالة لمقتله، صغيراً كان أو كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، حتى الشيخ يُرمى به على قارعة الطريق من دون تحريك نبضة قلب لأجله أو رجة ضمير حياله، فكيف لأقوى دولة في العالم أن تفعل ذلك بمواطنيها، وهي تضرب لنا كل يوم المثل بنفسها زعماً وادّعاء؟ كيف لها أن تأتي منكراً وتنهى عنه؟ ألا يستحقّ القتيل منذ الوهلة الأولى العدالة في دولة الديموقراطية وحقوق الإنسان بحكم القانون؟ أليس لمؤسساتها أخلاقيات المهنة؟ أتحتاج دولة القانون والمؤسسات والحقوق والعدالة والمساواة... إلى تظاهرات لإحقاق حقوق مظلوم؟ 

عندما أُمعن النظر في مشاهد العنف المؤسّساتي والاجتماعي والثقافي والإثني في صورة الحراك القائم بعد مقتل جورج فلويد، أتساءل: أي درجة من العنف والاستخفاف بالإنسان وصلت إليه أميركا؟ فهي اعتلت بذلك قمة الدول دكتاتورية في العالم، بما فيها دول العالم المتخلف! 

لقد نجحت أميركا في تقديم صورتها الحقيقية أمام العالم من دون مساحيق تجميل وأقنعة وعمليات جراحية تجميلية، وهي اليوم تقف كما خلقت من دم وأرواح الأبرياء الذين أبادتهم في أميركا. ولم يبق لمن يروّج لديموقراطية بلد العم سام "Sam Uncle" (U. S) حجج وأدلة ودفوعات، فقد سقطت بين يديه. لقد أسقطها نظامها بنفسه!

إنّ أميركا التي غزت الدول من أجل نشر السلام والديموقراطية والقيم العالمية وحقوق الإنسان ومحاربة أسلحة الدمار الشامل، ودمَّرت الدول والشعوب والعائلات والأسر والأفراد، فلم تحقق لهم سوى الدمار والخراب والفقر والنكوص التاريخي، والتخلف العقلي والأمراض المستعصية، والمعاناة والآهات والألم واليتم والبؤس... هي اليوم تقف أمام العالم لتشهده على همجية مؤسساتها وتخلّف إنسانيتها، وتنشر على أسلاك الغسيل أمراضها الاجتماعية التي تستجلب التأسف والتعاطف والتضامن الإنساني من كل القارات، وتعلن عن إفلاسها في بورصة القيم الإنسانية، فتفقد تلك الصّورة المثالية التي رسمتها لنفسها بالدعاية الإعلامية وبالقوة العسكرية، ولم يبق لها سوى الدرجة الأخيرة في لائحة الدول المنتهكة لحقوق الإنسان، وبشهادة وسائل التواصل الاجتماعي وكاميرات الإعلام العالمي، وهي لا تختلف عن أي دولة بوليسية في عالمنا الثالث. 

هكذا هم الطغاة. تسجّل عدسات النقل المباشر سقوطهم كأوراق التوت في فصل الخريف، فيتعرون من ملابسهم، ويتجردون من ألقابهم ونياشينهم.

نطق المواطن الأميركي الأفريقي جورج فلويد وهو يُخنق من قبل شرطي أميركي: "أريد أن أتنفس"، ومات فلويد خنقاً، آلاف الأميركيين يخرجون في تظاهرات يومية ومواجهات مع الشرطة وهم يرددون عبارة "فلويد"، ومعهم يردد العالم "نريد أن نتنفس".