هل من شعارات "ديموقراطية" في جعبة "اليانكي"؟
لقد أظهر الانفجار الشّعبي الَّذي تجاوز توقعات ترامب هشاشة النّظام الأميركي الذي لم يتخلّص من التفرقة العنصرية في مجتمع "سوقت" فيه نظريات "التحول" الديموقراطي والعدالة الاجتماعية منذ أكثر من قرن.
هل نحن أمام تغييرات جوهريّة؟ سؤال تطرحه مراكز الدراسات المختصّة بالشأن الأميركي، وذلك في مواكبتها للأحداث التي تشهدها الولايات المتحدة الأميركية، بعد مقتل جورج فلويد على يد الشرطة الأميركية.
لا تتوقف الأسئلة المثارة عند حدود التظاهرات التي تشهدها عشرات المدن، والتي اندلعت شرارتها رداً على العنصرية الأميركية، بل تتجاوز ذلك لتفتح المشهد على طبيعة النظام السّياسيّ الأميركيّ الّذي ينهش الـ"مهمّشين" في المجتمع الأميركي بوحشيّة.
لم يكن مقتل جورج فلويد خارج سياق سياسة "العزل" لتجمّعات رأت الإدارات الأميركية المتعاقبة أنها متعيّشة وغير منتجة، وبالتالي تشكّل كماً زائداً في المفهوم الاقتصادي، وتستخدمها كأوراق انتخابية تنتهي فعاليتها مع إقفال صناديق الاقتراع.
ويثير التاريخ السياسي الأميركي أسئلة تظهر دموية السياسيين الأميركيين في نظرتهم إلى مجتمعات الأقليات، وخصوصاً الأميركيين الأفارقة، والتي لم تنتهِ مع انتهاء العبودية في العام 1865.
لقد هزّت التظاهرات الغاضبة في شوارع الولايات المتحدة الأميركية، وتصاعدها إلى حد وصولها إلى ساحات البيت الأبيض، الصورة التي حافظت عليها الإدارات السابقة، بحزبيها الديموقراطي والجمهوري، وأفسحت المجال للمزيدات الانتخابية حتى تكون مادة للمؤتمرات الصحافية للمرشح الديموقراطي للرئاسة جو بايدن - تاريخه حافل بالوقائع العنصرية - ومع كلّ هذه الضوضاء والصّخب والمزيدات الانتخابية، لن يُسمح بأن تتصاعد الأمور إلى حرب "أهلية"، لأنها من الخطوط الحمراء في الدولة العميقة.
من المؤكّد أنَّ ما يحصل في الشارع الأميركي وضع سمعة أميركا على المحك، وحرَّك الشوارع الغربية للتنديد بسياستها العنصرية. لقد أظهر الانفجار الشّعبي الَّذي تجاوز توقعات الرئيس الأميركي الذي هدّد بنشر الجيش، الهشاشة الداخلية للنّظام الأميركي، الذي لم يتخلّص من التفرقة العنصرية وممارسة سياسة تشديد الخناق على الأقليات والإثنيات التي تتعرض للقتل البطيء بـ"قوانين" خفية من الاستعباد، في مجتمع "سوقت" فيه نظريات "التحول" الديموقراطي والعدالة الاجتماعية منذ أكثر من قرن.
يبدو أنَّ ما طفا على السّطح بعد مقتل جورج فلويد، أعاد التاريخ الحافل للإدارات الأميركية المتعاقبة في سجلّ التمييز الذي تخفّى في التفاصيل القاتلة لحياة من يسمّونهم "قذارة" أميركا في لبوس عنصرية كريهة؛ العنصرية التي تمظهرت في التهميش المتصاعد منذ مقتل مارتن لوثر كينغ في العام 1968، وهو أحد أهم الرموز التي خاضت معارك قاسية في مواجهة العنصرية.
في تدقيق الواقع المعيش لـ"المهمشين"، تسجّل الولايات المتحدة في تاريخ عنصريتها رقماً قياسياً في الاضطهاد لمن هم خارج دائرة الأنغلو - ساكسون، وهو ما تظهره الفوارق الكبيرة والصاعقة من حيث تدني الأجور التي يتقاضاها "السود" واللاتينيون وغيرهم من المصنفين بالكم "الزائد". وتظهر الخدمات الصحية حالة البؤس في تجمعات الصفيح التي يقطنها من هم خارج الحسابات السياسية والاقتصادية لمجتمع التفرقة الذي جمّل الصورة بشعارات "ديموقراطية".
ورغم مرور أكثر من قرن ونصف القرن على إلغاء العبودية، في ما عُرف بـ"التعديل الثالث عشر في الدستور الأميركي" الذي وقّعه الرئيس الأميركي إبراهام لينكولن في العام 1865، فإن البناء الطبقي الأميركي لم يتخلَّص من النظرة الدونية إلى الأقليات، باستثناء الأقلية اليهودية، التي أصبحت من القوى المتحكّمة بالاقتصاد وبكثير من المفاصل السياسية.
في ظلال السياسات الإقصائية التي تمارس بمنهجية متأصّلة في الداخل الأميركي، غلّفت واشنطن سياساتها الداخلية بشعارات مكافحة التمييز العنصري، وأصدرت الولايات فيها "القوانين" الناظمة التي تجرّم من يظهر أو يمارس سلوكاً عنصرياً، لكن كل ذلك لم يكن أكثر من "رتوش" مخادع لتصدير الصورة "الديموقراطية" إلى الخارج.
لا ينفصل السّلوك السياسي الأميركي الخارجي عن مظاهره الداخلية، وهو الذي أسَّس لنظرية التفوّق والغطرسة، ويمكن تتبّع ذلك في السياسات العدوانية التي تنتهجها واشنطن، بهدف فرض النموذج الأميركي على دول العالم. والأمثلة هنا لا تحصى، من حصار كوبا، إلى قلب النظام في تشيلي، واغتيال السلفادور الليندي، ومحاولاتها تطبيق سياسات اقتصادية إفقارية في أميركا اللاتينية وأفريقيا.
يعيدنا المنهج السياسي الأميركي إلى أن قراءة ما يحصل منوط بفهم البنية الإيديولوجية للقوى السياسية الأميركية المتحكمة بالقرار السياسي والاقتصادي وتوزع مصالحها بالدرجة الأولى. وبالتالي، من المبكر الذهاب إلى أحكام قطعية بأن انهيارات كبيرة ستصيب الولايات المتحدة الأميركية، وإن طفت على السطح مظاهر التذمر والمواجهة مع النظام السياسي الذي يفرض نموذج السوق المتوحشة، ويزيد من قبضته على مجتمعات الأقليات.
من الطّبيعي أنّ ما يحدث في الولايات المتحدة يستجرّ تعاطف الشارع الأوروبي الذي أدرك منذ عقود أن واشنطن لم تذهب إلى الشراكة الاقتصادية والسياسية مع بلدانه، بل عملت على "تدجين" بعض الحكومات الأوروبية وإلحاقها بمصالحها، ونجحت إلى حد كبير في تصديع الاتحاد الأوروبي، بعد نجاح الرئيس دونالد ترامب في انسحاب بريطانيا من الاتحاد، ومارست دور الشرطي، من خلال زيادة قواعدها العسكرية في ألمانيا وبولندا وبعض دول الاتحاد السوفياتي السابق.
ما تشهده الولايات المتحدة الأميركية لا يقاس فقط بحجم التظاهرات والشعارات المرفوعة لمواجهة العنصرية، وهي ليست المرة الأولى التي تجتاح فيها التظاهرات الشّوارع الأميركية، وإنما ما يمكن أن يسجّل هو أن ما عملت عليه واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية، لترسيخ صورة "المنقذ" والمنافح عن الأمن العالمي، بدأ يتهاوى ويفقد كلّ مقوّماته... الأمر الّذي سينعكس مستقبلاً على العلاقات مع بعض الدول الأوروبيّة، التي ضاقت ذرعاً بالهيمنة الأميركية والحماية لها، من خلال القاعدة الأكبر المسمّاة "حلف الناتو".
لن تخرج أميركا من دون ندوب وجروح بعد هذه الاحتجاجات التي عرَّت واقعاً متخفياً وراء "الديموقراطية"، ووفَّرت لبعض القادة الأوروبيين مفاتيح أثيرة لانتقادها في سجل حقوق الإنسان، وفتحت نوافذ التفكير في إعادة طرح نظام أمني لأوروبا ينأى "قليلاً" عن هيمنتها، وإن كان ذلك يحتاج إلى وقت ليس قصيراً.
ما قاله جورج فلويد في لحظات موته: "أريد أن أتنفّس"، لن يقلق ويضجع منامات قادة الحزبين الحاكمين في الولايات المتحدة الأميركية، اللذين يقدمان أدوات القتل لكيان الاحتلال.
هذه هي أميركا، وهذه هي سياسة التوحّش والتمييز العنصري التي لم تغادر عقول النخب السياسية الحاكمة وقواها الاقتصادية.