كيف تهدّد الصواريخ الدقيقة وجود كيان الاحتلال؟
أمّا وأنّ الوضع في غزّة انتقل إلى هذا المستوى من الصناعة والكفاءة في استخدام الصواريخ، وهي البقعة المحاصرة، فالسؤال الذي يطرح نفسه: كيف هو الوضع بالنسبة إلى سوريا والمقاومة اللبنانية؟
تعود نظرية استخدام الصواريخ كعامل توازن استراتيجي بما يرتبط بالصراع مع كيان الاحتلال إلى بدايات العام 1983، بسبب الخلل الكبير الذي ظهر خلال المواجهات العسكرية بين سلاح الجو الصهيوني وسلاح الجو العربي السوري، إذ كان واضحاً تفوق سلاح جو العدو في المواجهات، ما أحدث خللاً في فاعلية قوات المشاة والقوات المدرعة السورية، وكان له أثر سلبي في قوات المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية حينها، إلا أن العوامل الإيجابية بدت واضحة في المعارك التصادمية التي حصلت في عين زحلتا والسلطان يعقوب، وكذلك في خلدة، وخلال حصار العاصمة اللبنانية بيروت، وهو ما يؤكد ضعف قوات العدو في المعارك عند دخولها مرحلة الاشتباك المباشر من دون غطاء جوي.
حينها، وبعد مناقشات مُطولة، رأى الرئيس الراحل حافظ الأسد أنّه لا بد من تقليص الفجوة في توازن الردع، عبر اعتماد استراتيجية توازن رعب تمكّن الجيش العربي السوري من تحقيق التوازن في الجانب المرتبط بأدوات القتال.
وبالنظر إلى تدني الإمكانيات المالية، فإن العمل على تحديث سلاح الطيران كان مكلفاً للغاية، وكان سيأخذ وقتاً طويلاً لتحقيق التوازن مع سلاح الجو المعادي، ما جعل الرئيس حافظ الأسد يتجه نحو تحديث سلاح الصواريخ أرض – أرض وأرض – جو وأرض – بحر، لتحييد سلاحي الجو والبحر، وتحقيق التوازن في المعركة البرية والبحرية، وهو ما يمكن أن نُطلق عليه بامتياز "استراتيجية الأسد"، التي استفادت منها وطوّرتها كل من إيران وحركات المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وباتت عنصر الردع والرعب الأقوى الذي يحسب العدو له ألف حساب، وخصوصاً أنّ إيران نفسها عانت خلال الحرب عليها من تفوق سلاح الجو العراقي، وأيضاً سلاح الصواريخ.
المنازلة الأولى الفاعلة كانت في العام 1996، حين استخدمت المقاومة اللبنانية رشقات كثيفة من صواريخ الغراد على المستوطنات الشمالية، والتي أوصلت المفاوضات حينها، بإشراف الراحل حافظ الأسد، مع وزير الخارجية الأميركي وورن كريستوفر، إلى تفاهم نيسان، الذي استطاعت المقاومة من خلاله حماية السكان وحصر المواجهة بين المقاومة وقوات العدو وعملائه، بحيث يمكن القول، لا بل التأكيد، أنّ ذروة العمليات التي جعلت قادة العدو يتخذون قرار الانسحاب كانت بين الأعوام 1997 و2000، بالنظر إلى الحركية العالية التي امتازت بها المقاومة، نتيجة تحييد عامل الضغط على السكان، وخصوصاً قرب مسرح العمليات في الجنوب اللبناني، مع ضرورة الإشارة إلى محطة في غاية الأهمية، وهي أنه خلال المفاوضات، وبعد مجزرة قانا، رفض الرئيس حافظ الأسد مقابلة كريستوفر، لأنه تأخر عن الموعد 20 دقيقة، وأبقاه إلى اليوم التالي، وهي إشارة، على الرغم من اختصاري لسرد تفاصيلها، تعني أهمية من يمتلك الحق في تحديد المسارات إذا ما امتلك القوة إلى جانب قوة الحق.
وبخلاف توقع الكثيرين حينها بدخول المقاومة مرحلة الترهّل والتراجع، إلا أنها استمرت في تحديث أسلحتها ونقل مقاتليها إلى مستوى أعلى من المهارة الميدانية، وبدأت بتحصين المناطق التي انسحب منها الجيش الصهيوني، وجهّزتها لكل الاحتمالات، وهو ما برز واضحاً خلال مواجهة تموز 2006، إن كان بالنسبة إلى المواجهات البريّة، حيث برزت الكمائن المضادة للدروع وكمائن القوات الخاصّة، أو بالنسبة إلى الاستخدام عالي المستوى للصواريخ أرض – أرض من كل المديات والعيارات، والتي أرست قواعد اشتباك جديدة على المستوى التكتيكي للمعركة، وبما أحدثته من خلل كبير في البنية الأساسية لوجود الكيان.
في مواجهة العام 2006، تباينت المعلومات حول العدد الذي استخدمته المقاومة حينها من الصواريخ، وهو في رأيي يبقى أمراً رمزياً قياساً إلى حجم الضرر الذي ألحقته الصواريخ في الجانب الاستراتيجي الذي مسّ، ولأول مرة، وجود الكيان، وتحديداً في الجانب المرتبط بأصل الفكرة التي قام عليها، وهي الهجرة إلى فلسطين المحتلة، مع التذكير بأن صليات الصواريخ زاد عددها مع الأيام الأخيرة للمواجهة ولم ينقص، وهو في الجانب العسكري أمر شديد الأهمية.
فكما أن الاندحار القسري الأول لجيش الكيان حصل في العام 2000 تحت ضربات المقاومة المتلاحقة، التي أجبرت قيادة الكيان حينها على إجراء تقييم لمدى جدوى البقاء في الأراضي اللبنانية، أظهر عدم جدواه، ما أدّى إلى انسحاب كامل من دون أية مفاوضات أو شروط مسبقة، كان لمواجهة 2006 أثر كبير في حدوث الخلل الأكبر في وجود الكيان، فللمرّة الأولى منذ نشوئه، اضطر نصف سكان المستوطنات الشمالية إلى الهجرة إلى وسط فلسطين المحتلة طيلة فترة المواجهة، بينما قبع النصف الآخر في الملاجئ لمدّة 33 يوماً.
الآن، وبعد مرور 14 عاماً على مواجهة العام 2006، تبدو الأمور أكثر تعقيداً في الجانب الصهيوني، حيث بلغت مستويات الهجرة المعاكسة حدّاً كبيراً، وحيث يستمر تصاعد حجم القوّة ونوعيتها في قطاع غزة التي خاضت المقاومة فيها 3 مواجهات أساسية بعد العام 2006، كشفت عن نوعيات مميزة من الصواريخ بمداها ورؤوسها المتفجرة وتأثيرها في الداخل الصهيوني، رغم الحصار الكامل على القطاع برّاً وبحراً وجوّاً.
ورغم الحصار، دخلت المقاومة في غزّة مرحلة تصنيع الصواريخ، وبكميات كبيرة، أظهرها عدد الصليات، وخصوصاً الصواريخ التي يتجاوز مداها 90 كلم، وهي صواريخ تمّ تصنيعها على أساس هندسة الصاروخين "فجر" الإيراني و"أم – 302" السوري، وهما الطرازان اللذان استخدمتهما المقاومة في لبنان خلال مواجهة 2006 بأعداد قليلة.
أمّا وأنّ الوضع في غزّة انتقل إلى هذا المستوى من الصناعة والكفاءة في استخدام الصواريخ، وهي البقعة المحاصرة، فالسؤال الذي يطرح نفسه: كيف هو الوضع بالنسبة إلى سوريا والمقاومة اللبنانية؟
الجواب الطبيعي هو أضعاف أضعاف ما تمتلكه المقاومة الفلسطينية كمّاً ونوعاً وقدرةً على إحداث الضرر بمنشآت الكيان العسكرية والاقتصادية.
وبالعودة إلى عنوان المقال، فنحن في هذه المرحلة، على غرار العدو، نتحدث عن صواريخ بمديات طويلة ورؤوس متفجرة كبيرة تصل في بعض الأنواع إلى 800 كلغ من المتفجرات شديدة الانفجار، بات المئات منها مزوداً برؤوس ذكية تستطيع إيصال الصاروخ إلى هدفه بدقة تصل إلى عامل خطأ لا يتجاوز 10 أمتار، وهو ما رأينا نموذجاً منه بعد قصف قاعدة عين الأسد الأميركية في العراق، حيث بيّنت الصور سقوط الصواريخ في منتصف دائرة الهدف. وأنا هنا أتكلم طبعاً عن أجهزة التوجيه التي باتت تعتمد على مزيج من أدوات التوجيه: القصور الذاتيInterial Navigation System، والتوجيه البصري الكهربائي Electro Optical، ونظام تحديد المواقع العالمي Global Positioning System.
وإن كان الحديث عن تقنيات توجيه الصواريخ ومواصفاتها يحتاج إلى بحوث مطوّلة، فإنني أكتفي هنا بالإشارة إلى النتائج التي يمكن أن يؤديها سقوط الصواريخ على أهدافها في الجوانب العسكرية والاقتصادية والنفسية على الكيان.
ومقارنة النتائج المتوقعة بما حصل في العام 2006 سيكون مختلفاً تماماً، وسيؤدي إلى انهيارات كاملة في بنية الكيان، حيث سيتم استهداف كل الأهداف الاستراتيجية من مواقع قيادة، وسيطرة منشآت كبرى ومحطات الكهرباء ومصافي البترول والمطارات والموانئ وغيرها، وخصوصاً أن الجغرافيا الحيوية التي تحتوي على البنية الاستراتيجية للكيان لا تتجاوز مساحتها 2000 كلم مربع، وهي التي تحتوي 70% من السكان، وأكثر من 80% من البنية التحتية، وستكون الضربات على الأهداف الاستراتيجية بالصواريخ الذكية دقيقة بعوامل خطأ لا قيمة لها عسكرياً، ناهيك بآلاف الصواريخ الثقيلة التي لا تحتوي أجهزة توجيه ذكية، وعشرات الآلاف من الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى التي ستطال غلاف مستوطنات غزة والجليل والجولان، وسيكون لتل أبيب وضاحيتها غوش دان نصيب كبير من الصواريخ الثقيلة، وكذلك المدن الأخرى الرئيسية.
أمام هذا السيناريو، أترك لكم أن تتخيلوا المشهد ونتائجه من الفوضى والهلع والتخبط والانهيار، رغم تشكل رؤية جديدة تقول بعدم حدوث المواجهة، بسبب التحولات الكبرى وانتهاء الصلاحية الوظيفية للكيان، وخصوصاً إذا ما ذهبت الأمور نحو انسحاب كلي لأميركا من المنطقة، وربما حدوث تفكك كبير داخلها سيُنهي أميركا الحالية التي نعرفها، ويخلق دولاً عديدة، وهو أمر متوقع ولم يعد من الخيال.