خذوا كلّ شيء واتركوا لنا المقاومة
إن قوّة أية قضية، مهما كان نوعها أو عنوانها، ترسمها حتماً جدية أصحابها وتعاليهم عن أية مكاسب مادية قد تُبعدهم عن الأهداف الحقيقية لقضيتهم.
نعيش في هذه الأيام أجواء فرحة نصر 25 أيار/مايو في ذكراه العشرين، وهو الذي أعاد التوازن في معادلة الصراع مع العدو الصهيوني لصالح القضية الفلسطينية. فرحة ممزوجة بضجيج أصوات باتت ترطن بلغوها عن التطبيع في العَلن، بعد أن كانت لا تقدر أن تتجاوز مرحلة الهمس في القاعات المغلقة.
في مقابلة له مع رئيس مجلس إدارة الميادين الإعلامي غسان بن جدو، في غمرة عدوان العام 2006، دافع سماحة السيّد حسن نصر الله عن العلاقة التي تربط حزب الله بسوريا وإيران، مؤكّداً أنه طيلة 24 عاماً لم يتم استثمار هذه الصداقة سوى لصالح لبنان، ولم تُستغل في تضخيم أرصدة مصرفية، أو في تشييد قصور وعقارات لصالح قادة الحزب وإطاراته، في حين استفاد آخرون من صداقاتهم مع سوريا في تعزيز مواقعهم، والحفاظ على كراسيهم، وزيادة ثرواتهم وأرصدتهم في البنوك.
إن قوّة أية قضية، مهما كان نوعها أو عنوانها، ترسمها حتماً جدية أصحابها وتعاليهم عن أية مكاسب مادية قد تُبعدهم عن الأهداف الحقيقية لقضيتهم، وقوّة حزب الله تنبع من زهده بالمنافع الشخصية، مادية كانت أو حزبية، بل أثبتت الوقائع والأحداث أنه يمكن أن يتنازل عن مصالحه الحزبية في سبيل تثبيت معادلة المقاومة، ولنا أن نتخيّل ما الذي يمكن أن يحدث لو كانت القوّة التي يمتلكها الحزب في يد خصومه!
بوصلة حزب الله اتجاهها استراتيجي، لا يحكمها مزاج أو ولاءات أخرى غير مصلحة لبنان وخدمة قضايا الأمّة. صديق الحزب معروف لا لبس فيه، ولا تُغيّره ظروف أو مصالح مُستجدّة، وعدوّه معلوم لا جدال حوله، وهذا هو تحديداً المحظور الذي وقعت فيه بعض فصائل المقاومة الأخرى، فاختارت أحياناً أن تُغلّب مرجعيتها السياسية أو التنظيمية على تحالف المبدأ والقضية الواحدة، ما أفقدها الكثير من رصيد مصداقيتها الذي اكتسبته أصلاً باسم قضية شاملة غير انتقائية.
يُخطئ مَن يعتقد أن قوّة الحزب تكمُن في قدراته العسكرية فقط، بل هي أيضاً في حضوره الإنساني وبُعده الأخلاقي، ما سمح له بفتح مساحات خاصة تُمكّنه من احتضان حلفائه وتَقبُّلهم بأخطائهم وثِقل حملهم أحياناً، تماماً مثلما يتجاوز عن خطايا خصومه، فيُعطي الفرصة تلو الفرصة، ويصبر على الأذى، ولا يردّ يداً تُمَدُّ له، لأن معادلة المقاومة التي ترتبط أساساً بالحرص على التضحية بكل شيء، لا تصحّ ولا تستقيم سوى بأناسٍ مُتصالحين مع أنفسهم، نزيهين غير فاسدين، وقادرين على تحديد أهدافهم بلا تردد أو تلكؤ، تُحرّكهم مبادئ لا يستطيعون التحرّر منها، ولو حاولوا.
حزب الله يُمثّل هذه المعادلة التي تضمن حداً أدنى من التوازن الأخلاقي والقِيَمي في الأمّة، مقابل الأصوات التي تحاول أن تستكثر علينا العيش بكرامة، ولو كانت ممزوجة بالدماء، بدعوى أن المبادئ والكرامة هي وليدة الإيديولوجيا التي تؤخّرنا وتُعطّل تقدّمنا، ويستشهدون في ذلك باليابان التي قصفتها أميركا بالقنابل النووية. ورغم ذلك، تضع آلامها وراءها، وتواصل حياتها بلا حقد يمنعها من أن تتحالف مع عدوّها قاتل أبنائها، أو أوروبا التي تُحسَب على العالم الأوّل، ورغم ذلك تقبل بدور التابع المذلول من طرف الحليف الأميركي.
هذا الفريق يبحث عن حجج للخنوع والاستسلام لإرادة الأميركي، ومن بعده العدو الإسرائيلي، فيحوّل الصراع إلى مُجرّد نزاع مُفتَعل لا جدوى منه، يتحمّل وِزْره ومآلاته من يدعو إلى استعداء الكيان الصهيوني، أي حزب الله ومحور المقاومة، وبالتالي فإنه غير معني بأية مواجهة تُفسد حياته ومصالحه التي ألِفها، ولو كانت مرهونة بالذلّ والخضوع الكامل، ومن دون شروط للعدو.
لم يقل حزب الله يوماً إنه سينهي وجود "إسرائيل" في معركة واحدة، ولكنه يؤمن، وفق مبدأ "ما ضاع حق وراءه مُطالب"، بأن "إسرائيل" كيان غير طبيعي، جاء من رحم ولادة غير شرعية، وسيكون مصيره الزوال حتماً. وإلى أن يزول، سنعيش بكرامتنا وكبريائنا، ونقول لا بأعلى صوت، ونربّي فكرة المقاومة في ذِهن كل مولود وقلبه، حتى تستمرّ القضية ولا تتقادم مع الزمن.
وإذا كان لأحد أن يراهن على عامل الوقت من أجل تحقيق النصر، فهو نحن، وليس العدو الصهيوني الذي يخسر مع كل لحظة صمود عربية وفلسطينية حظوظه في البقاء في أرضنا.
لو كانت قوّة العدو وجبروته يدفعان إلى الاستسلام والرضا بالمهانة والذلّ، لما انتفض أيّ مظلوم، ولما قامت أية ثورة في العالم، وأولها الثورة الجزائرية، ولما استطاع الشعب الجزائري أن يرفع رأسه من وَحْلٍ اعتقد الفرنسي أن عامل الوقت والزمن كفيل بأن يجعله يعتاد ويرضى بالبقاء فيه، فلو عُدنا وفق منطق الحسابات المُجرّدة إلى حيثيات قيام ثورة التحرير الجزائرية وظروفها بأثر رجعي، لاتّهمنا قادتها ومُفجّريها الأوائل بالجنون والمقامرة بمصير شعب، تماماً كما وصفت السعودية عملية "الوعد الصادق" في العام 2006، عندما أسرت المقاومة الجنديين الإسرائيليين، بـ"المغامرات غير المسؤولة".
إذاً، القضية تُحسم في البداية وفي النهاية، وفق قوّة المبادئ ومدى صفائها وتحرّرها من الشوائب الزائِدة التي تُفسِد بريقها ومعدنها الحقيقي، وليس بحسب القوّة العسكرية أو المالية التي يُمكن أن تتوافر حالما تحضر العزيمة وتصدق النيات، وكأن لسان حال حزب الله يقول: خذوا كل شيء، واتركوا لنا فقط المقاومة التي لا ترون فيها سوى الشر الذي يفسد حياتكم، ويدمّر أحلامكم، ويقضي على آمالكم، بينما نراها نحن الوسيلة الوحيدة التي نحيا بها في زمن ماتت فيه النخوة والكرامة.