عقدة التاريخ في الخليج.. "إسرائيل" تشبهنا أكثر!
عقدة التاريخ لدى معظم دول الخليج دفعتها نحو محاولة الانتقام من كل دولة عربية لها تاريخ تستند إليه في المحافظة على عنفوانها وكبريائها، فاستدعت احتلال العراق بعد أن ورّطته في حرب عبثية مع إيران، واعتدت على اليمن، وتآمرت على سوريا وليبيا والجزائر.
صحيح أن خروج مصر، وما تعنيه من رمزية قومية، وما تُمثِّله من وزن عسكري وثِقل تاريخي وحضاري في العالمين العربي والإسلامي، من معادلة الصراع مع العدو الإسرائيلي، بعد إبرامها اتفاقية كامب ديفيد في العام 1979، مهّد للتطبيع، وصحيح أيضاً أن انخراط الفلسطينيين أنفسهم عبر منظمة التحرير الفلسطينية في اتفاق أوسلو قد ساهم في تبرير سلوك من كانوا بأَمَسِّ الحاجة إلى رفع الحرج والعتب وفق منطق ومقولة "لسنا مَلَكِيّين أكثر من الملك"، وصحيح كذلك أن الانتكاسات العسكرية والهزائم المتتالية أمام العدو وفَّرت بيئة ومناخاً مناسبين لحالة من الاستسلام وفقدان الثقة في القدرة على مواجهة غطرسة العدو، ولكن الصحيح أيضاً أن مسار التطبيع لم يكن من حيث المبدأ ظاهرة مستجدة فرضتها ظروف طارئة أو سبّبها سلوك أو قرار خاطئ، بقدر ما كان حالة سياسية ونفسية ارتبطت عضوياً منذ البداية بشرعية بعض الأنظمة العربية في حد ذاتها، وبطبيعة وجودها بالأساس.
نخطئ عندما نعتقد أن ظاهرة تطبيع بعض الدول العربية مع الكيان الصهيوني هي وليدة السنوات الأخيرة، بل هي فكر أصيل لطالما كان يتم التعبير عنه في القاعات المغلقة عبر كل المراحل التي مرت بها القضية الفلسطينية، ولكن باحتشام وخجل وخوف، بشكل يتوافق مع الشخصية الكتومة والحذرة لقادة هذه الدول في فترات سابقة اتّسمت بواقع سياسي عربي ودولي مختلف، من حيث زخم تقديس القضية الفلسطينية والحركات التحرُّرِيّة بشكل عام، ما جعل من الصعب التعبير صراحة عن المواقف السياسية خوفاً من رد الفعل الشعبي.
ما يبدو أنه تَحوُّل مفاجئ وحاد نحو حضن العدو الإسرائيلي من قِبَل محمد بن سلمان، ما هو في الحقيقة سوى استكمال للدور الأصيل ذاته الذي ظل يمارسه والده وأعمامه وأجداده عبر كل مراحل الصراع العربي الإسرائيلي، ولكن الجديد هو اضطلاعه بهذه المهمة بطريقة فجة تتفق هي الأخرى مع تركيبته النفسية المتماهية مع النفسية "الترامبية" - التي أصبحت موضة طاغية في ممارسة الحكم هذه الأيام، مع صعود ما يسمى باليمين المتطرّف في أكثر من دولة غربية، من حيث التهور وانعدام الخبرة والفجاجة، إلى درجة الوقاحة في التعبير عن المواقف والاعتقاد بأن كل شيء يبدأ وينتهي بالمال - مستفيداً من وضع العالم العربي المتأزم بعد الاستهداف الصهيو-خليجي لسوريا والعراق واليمن وليبيا والجزائر، وبالتالي خلو أي عوائق أمام السعودية لقيادة مشبوهة للعالم العربي نحو التطبيع مع العدو.
قد يبدو محمد بن سلمان متناقضاً مع نفسه حين يخاطب الفلسطينيين من جهة بأن عليهم قبول مقترحات ترامب أو "الصمت والتوقف عن الشكوى"، في حين يؤكد من جهة أخرى، وفي التصريح ذاته، أن "القضية الفلسطينية ليست أولوية بالنسبة إلى حكومته ولا إلى الجمهور السعودي، وأن هناك قضايا أكثر إلحاحاً وأكثر أهمية من ذلك"، فالمنطق البديهي يقول إنه إما أن يكون مهتماً بالقضية الفلسطينية، فيحق له في هذه الحالة إسداء النصيحة للفلسطينيين، وإما أن يكون غير معني بالشأن الفلسطيني، فيجب عليه في هذه الحالة أن يترك الفلسطينيين وشأنهم.
والحقيقة أن تصريحات ابن سلمان منسجمة ومتوافقة بشكل جلي وواضح مع أهداف السعودية التي لا تسعى إلى التطبيع فحسب، لأن ذلك كان ولا زال تحصيلاً حاصلاً، بل تريد استغلال الفلسطينيين من أجل التطبيع باسمهم، لأن الهدف الأساسي والمنطقي من التطبيع هو بيع الفلسطينيين وقضيتهم للعدو. ومن دون فلسطين، لا قيمة للسعودية ولا لتطبيعها، مهما كبر حجمه أو زادت فجاجته.
يجتهد محمد بن سلمان في شيطنة الفلسطينيين واتهامهم بأنهم السباقون إلى التطبيع مع الكيان عندما وقّعوا اتفاق أوسلو، بينما يلومون غيرهم على الفعل ذاته، في حين أن منظمة التحرير مرت بحالة من الترهيب أحياناً، والترغيب أحياناً أخرى من طرف دول عربية لدفعها نحو التوقيع.
ولولا الضغوطات الخليجية بالذات، ترهيباً وترغيباً، لما كان لاتفاق أوسلو أن يكون، ولما تحوّل السودان باتجاه "إسرائيل"، بعد أن اقتنع بأن الوصول إلى قلب أميركا عبر التطبيع المباشر مع الكيان الصهيوني أسرع وأسهل، بل وأقل تكلفة من التطبيع بالوكالة من خلال السعودية والإمارات، وخصوصاً بعد أن استغلت هاتان الدولتان حاجة السودان لإزالته من قائمة "الإرهاب"، فورَّطتاه في حرب اليمن، ولم تفيا بوعودهما بدعمه مالياً واقتصادياً، ولا حتى في قول كلمة طيبة عنه في أذن صديقهما الأميركي.
لم تتوقف أساليب الضغط الخليجية المختلفة على الفلسطينيين، لتساومهم حتى على أبسط المساعدات التي تقدمها لهم، وقد عشنا أوضح فصول وقاحتها خلال محاولة السعودية والإمارات فرض تمرير "صفقة القرن" بالقوة، وقبلها قرار نقل السفارة الأميركية إلى مدينة القدس المحتلة، واعتبارها عاصمة للكيان الصهيوني.
ولم تختلف هذه الضغوطات سوى في شكلها وأسلوبها، فبينما لا يجد محمد بن سلمان ومن والاه اليوم حرجاً في معايرة الفلسطينيين والاستهزاء بهم كلما رفضوا عرضاً للاستسلام - على شاكلة تغريد وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان بالقول: "في كل مرة يقول الفلسطينيون لا، يخسرون" - فإن ملوك دول الخليج وأمراءها السابقين كانوا يحافظون على سرية هذه الضغوطات، ويتجنبون أحياناً كثيرة التعبير عنها صراحة للجانب الفلسطيني، معتمدين على التلميح أو التلكؤ في تقديم المساعدات، بما يتناسب مع شخصية قادة دول الخليج النفسية والذهنية في تلك الفترة، وبما يتسق أيضاً مع وضع تلك الدول التي كانت حينها تنشط على هامش مركز اتخاذ القرار العربي الذي كانت تقوده دول محورية في العالم العربي (سوريا والعراق والجزائر وليبيا ومصر قبل كامب ديفيد)، فكانت بالتالي مُجبرة على مجاراة سياسة النظام العربي المعادي بقوة للمحتل الإسرائيلي في تلك المراحل ولو شكلياً.
ورغم أن دولاً مثل مصر والأردن وقّعتا اتفاقيتي سلام مع الكيان الصهيوني (وهو فعل مُدان في جميع الأحوال)، فإنهما لم يصلا إلى مرحلة التطبيع الحقيقي، رغم مرور سنوات على ذلك، حيث يُمكن وصف الوضع بالهدنة أكثر من كونها تطبيعاً، لأن الشعوب هناك لا زالت تقاومه، في حين أن دول الخليج التي ظلت ملتزمة "رسمياً" بالموقف العربي المقاطع لكيان العدو، حتى بعد توقيع مصر لكامب ديفيد في العام 1979، قطعت شوطاً في التطبيع الفعلي معه، بحكم تركيبة المجتمعات هناك، التي تأثرت بالواقع المادي الذي فرضته الطفرة البترولية، ولم تعد ترى أنها معنية بصراع يعيق استفادتها من الثروة الهائلة التي باتت بين يديها، وبسبب وجود أنظمة تشترك في حملها لعقدة عميقة ومُتجذرة تجاه التاريخ؛ عقدة تدفعها إلى التطبيع مع كيان لا تاريخ له سوى أنه محتل غاصب همجي غير إنساني.
فدول الخليج، رغم تحقيقها نجاحات مادية كبيرة مَكَّنتها من أن تتحول إلى مؤسسات وشركات ضخمة، ولكنها عجزت عن أن تصبح دولاً حقيقية، حتى بالحد الأدنى للتعريف القانوني لمفهوم الدولة، فبقيت دائماً تشعر بعقدة نقص تجاه الدول الوطنية التي تملك عناصر القوة الحقيقية، والتي يشكل التاريخ الحضاري والنضالي والثوري أحد أهم مكوناتها، حتى وإن لم تستثمر تلك الطاقات أحياناً، لسبب أو لآخر، إلا أنها موجودة فعلياً، ويمكن تفعيلها حالما تتوافر الشروط الملائمة في تلك الدول.
تحاول دول الخليج أن تبرّر لنفسها انخراطها وانغماسها في مستنقع التطبيع، من خلال الدفع نحو الاعتقاد بأن "الإصرار" على معاداة الكيان الصهيوني إنما يستند إلى إيديولوجيا الدين والقومية التي تعيق التطور وتعزل العرب والمسلمين عن بقية العالم، في حين أن دولاً أخرى تصالحت مع عدوها السابق، وتجاوزت جرائمه، وفتحت معه علاقات جديدة، مستدلين باليابان التي قصفتها أميركا بالنووي مثلاً، إلا أن ذلك لم يمنعهما من أن يصبحا حليفين قويين، والحقيقة أن تلك الدول تجاوزت الماضي، لأنه يعيق المستقبل، بينما في الحالة العربية - الفلسطينية، فهو يبتلع كل مستقبل الأمة.
قصف أميركا لليابان بالنووي أصبح من الماضي، ولا يمكن التعامل معه بمنطق الدول، سوى أنه تاريخ مرير يجب طيّ صفحته والتطلّع إلى الأمام، أما اغتصاب الإرهابيين الصهاينة لأرضنا في فلسطين، فإنه لا زال قائماً، بل ويزداد وقاحة وظلماً كل يوم، وسيبقى، بل وسيستفحل في المستقبل إن ركنَّا إلى التسويف والخنوع والاستسلام.
ينسى هؤلاء أيضاً أن الكيان الصهيوني في حد ذاته يقوم على أساس إيديولوجي وديني بحت، ولا زال إلى اليوم يحفر تحت وحول المقدسات الإسلامية والمسيحية، في سعي لإثباتٍ دينيٍّ وعقائديٍّ لحقه المزعوم في فلسطين، بينما يريد "إخوتنا" منا أن نكون غاندي في سويسرا.
عقدة التاريخ لدى معظم دول الخليج دفعتها نحو محاولة الانتقام من كل دولة عربية لها تاريخ تستند إليه في المحافظة على عنفوانها وكبريائها، فاستدعت احتلال العراق بعد أن ورّطته في حرب عبثية مع إيران، واعتدت على اليمن، وتآمرت على سوريا وليبيا والجزائر، واستقطبت مصر عبر المساعدات المالية، حتى يخلو لها الجو للتحكم بمستقبل الأمة ورهن قرارها للأعداء، من خلال السيطرة على الجامعة العربية واستغلال الانفراد برعاية المقدسات الإسلامية للحديث باسم المسلمين.
أخطر ما في التطبيع الذي تسعى إليه ممالك الخليج وإماراتها هو الترويج لمفهوم مشوّه ومُلغّم لـ "اللاإيديولوجيا"، بما يرهن ما تبقى من إنسانيتنا وكرامتنا لصالح تمرير سمّ الاستسلام وتغليفه بعسل "السلام"، وهي معادلة عبثية تُبرِّر الفشل، وتُميِّع أي هدف نبيل، وتُلغي أي التزام، وتُجرّم مبدأ المقاومة، وتُحوّله في أحسن أحواله إلى مجرد وجهة نظر أو وهم يتكئ عليه المزايدون على قومية تلك الأنظمة.