"إسرائيل" بروح رياضية.. محاولات تسلّل عبر "اللعب النظيف"
يشكّل التطبيع الرياضي تحايلاً على الرفض الشعبي للاحتلال ومحاولة لاستدراج العربي بعدما يصبح العدو في مخيلته لاعباً ومنافساً في الملاعب بـ "روح رياضية".
لم يستطع مسار التطبيع العلني الذي افتتحته اتفاقيات السلام بين كل من مصر والأردن من جهة وكيان الاحتلال من جهة أخرى في كامب ديفيد (1978) ووادي عربة (1994)، أن يكسر جليد العداء الشعبي لـ"دولة" الاحتلال.
على مدى سنوات من العلاقات السياسية والدبلوماسية بين الجانبين، لم تتحسّن صورة الاحتلال في المخيال الشعبي العربي، بل ظلّ التضامن مع القضية الفلسطينية أقوى وأكثر سيطرة على الشارع.
وقد أظهر استطلاع المؤشر العربي للعام 2017-2018 أنّ 90% من المستطلعة آراؤهم متفقون على أن سياسات "إسرائيل" تهدد أمن المنطقة واستقرارها، فيما رفض 87% من المستجيبين أن تعترف بلدانهم بـ"دولة" الاحتلال.
ولذلك، كان لا بدّ بالنسبة إلى أنصار إقامة علاقات عربية مع الاحتلال من سلوك طرق أخرى بعيدة من التطبيع المباشر الذي لم يكن مثمراً إلا على المستوى الرسمي، واتّباع ما يمكّن من اختراق الوعي الشعبي والموقف الرافض للاحتلال، فكان ذلك عبر تطعيم التطبيع بالبعد الإنساني، بحيث يصبح الاحتلال جزءاً من الفن والثقافة والمسرح والسينما والرياضة، وهي ميادين يتابعها الملايين من العرب، ما يمكن أن يساهم في الوصول إلى أكبر عدد منهم، بعد أن يتلطّى الإسرائيلي في عباءة الكاتب والممثّل والفنّان واللاعب الرياضي.
وقد شهدت الأعوام القليلة الماضية تطوّرات بارزة على مستوى التطبيع الرياضي، منها على سبيل المثال مشاركة لاعبين إماراتيين وبحرينيين في سباق طواف إيطاليا الذي أقيم في القدس المحتلة في أيار/مايو 2018.
وفي العام ذاته، فتحت دول خليجية عربية مطاراتها لفرق إسرائيليّة للمشاركة في بطولات رياضية، فوصل في تشرين الأول/أكتوبر 2018، لاعبون إسرائيليون إلى كلّ من الإمارات العربية المتحدة وقطر للمشاركة في بطولة الجودو في أبو ظبي والجمباز الفني في الدوحة، وعزف النشيد الإسرائيلي ورفع علم الاحتلال في البلدين، بعدما كان ذلك مرفوضاً في وقت سابق.
ولقي الوافدون الإسرائيليون حفاوة في الاستقبال، تؤكّد أنّ الأمر أبعد من الالتزام بالشروط التي تفرضها الجهات الدولية المنظّمة للبطولات، وهي جهات ليست بعيدة من رعاية التطبيع، وتتعدّاه إلى نسج علاقات علنية تبدو طبيعية وانسيابية على هامش نشاطات رياضية، فوزيرة الثقافة في الحكومة الاحتلال، ميري ريغيف، رافقت الوفد الإسرائيلي إلى الإمارات، وقامت بجولة فيها شملت مسجد محمد بن زايد.
وقد وصف حساب "إسرائيل بالعربية" على موقع "تويتر" عزف النشيد الوطني الإسرائيلي في قطر على أنّه إنجاز كبير للرياضة الإسرائيلية، فيما قال حساب "قف معنا بالعربية" على موقع "تويتر"، إنّ عزف النشيد الإسرائيلي في الدول العربية "إنجاز كبير لدولة إسرائيل".
وفي تشرين الأول/أكتوبر 2019، وصل إلى رام الله المنتخب السعودي للمشاركة في التّصفيات المؤهلة لكأس العالم 2022 وكأس آسيا 2023، وزار الأقصى بالتزامن مع اقتحامات المستوطنين للمسجد في أول أيام "عيد العرش".
واللافت أنّه قبل 4 أعوام من هذا التاريخ، في العام 2015، رفض المنتخب السعودي اللعب في مباراة مشابهة، خوفاً من أن تطاله شبهة التطبيع، ولم يشارك إلا بعد نقل المباراة لإقامتها في الأردن.
وقد ذكرت ورقة صادرة عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي في تشرين الأول/أكتوبر 2015 إنّ "رفض السعودية الانخراط في أيّ شكل من التطبيع، حتى أبسطها، يؤكّد حجم العقبات أمام تحقيق تطوّر في العلاقات مع إسرائيل، حتى وإن صرّح كبار المسؤولين أنّهم يشاطرونها رؤيتها حول البيئة الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وأن مصالحهما متطابقة في العديد من الأمور".
وفي ضوء ذلك، يمكن الاستنتاج أنّ التغير في الموقف يعكس الانزياح إلى الاحتلال وتخطي ما كان قبل من المحرمات، في ظل إعادة التموضع التي يشهدها عدد من الدول العربيّة حيال القضيّة الفلسطينيّة.
وعلى الرغم من قتامة المشهد عند النظر إليه من هذه الزاوية، فإنّ ثمة زاوية أخرى تبدو مشرقة، لجهة رفض التطبيع الرياضي، إذ أبدى عدد من اللاعبين العرب مواقف حاسمة رفضاً للتطبيع مع الاحتلال، مثل اللاعب الكويتي عبد العزيز الشطي، الذي انسحب من بطولة العالم للمبارزة في سويسرا بعدما أوقعته القرعة في مواجهة لاعب إسرائيلي، والطفل اللبناني مارك بو ديب الذي رفض اللعب ضدّ منافس إسرائيلي في بطولة العالم للشطرنج في إسبانيا، واشترط عدم مواجهة لاعب من الكيان كي يشارك في البطولة، وأمثلة أخرى كثيرة تدلّ على الرفض الشعبي للاحتلال.
في ظلّ تراجع الموقف العربي الرسمي حيال القضية الفلسطينية، والذي أخذ يتبلور بوضوح بعد ما سمّي بـ"الربيع العربي"، يبدو الانخراط في التطبيع أكبر خارج منظومة اتفاقيات السلام.
ومع فشل هذه الاتفاقيات في أن تجعل "دولة" الاحتلال "محبوبة الجماهير"، حتى في الدول التي انخرطت في "السلام"، يجري العمل على اختراق القواعد الشعبية، عبر ترسيخ صورة جديدة عن الاحتلال تنزع عنه وصف العدو والقاتل والغاصب والمعتدي.
وبذلك، فإنّ التطبيع الرياضي يشكّل تحايلاً على الرفض العربي الشعبي للاحتلال، ومحاولة لكيّ الوعي العربي واستدراجه نحو قبول التطبيع السياسي، بعدما يصبح العدو في مخيلته لاعباً ومنافساً في الملاعب بـ "روح رياضية" خارج المنظومة الاستعمارية، تماماً مثلما يجري تغيير صورته في الدراما العربية وفي الإنتاج التلفزيوني العالمي.
ختام القول، يعدّ الموقف الشعبي العربي حجر عثرة أمام انصهار "دولة" الاحتلال في المنطقة، لتصبح "دولة" طبيعية بدلاً من كونها كياناً طارئاً.
ولعلّ الدول التي ترغب في التطبيع الكامل مع الاحتلال، تتردّد في ذلك قبل أن تضمن أنّ مثل هذه الخطوة لن يكون لها تداعياتها في الشارع. وقد عبّر عن ذلك رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في كلمة ألقاها في "الكنيست" في العام 2017، لمناسبة مرور 40 عاماً على زيارة السادات إلى القدس المحتلّة، قائلاً: "إنّ العائق أمام إبرام سلام بين الدول العربية وإسرائيل هو الشعوب العربية والرأي العام العربي"، فهل يأخذ الاحتلال بالرياضة ما لم يحصل عليه بالسياسة؟