نوافذ "عربية" مشّرعة للتطبيع.. كيف بدأ مسار الانحدار؟
ما يظهر اليوم من ترويجٍ عَلني للتطبيع يؤكّد الشراكة في "صفقة القرن"، وأن العلاقات التي طفت إلى السطح ليست وليدة مشاريع طارئة، وإنما هي تاريخ من التنسيق المشترك بعد العام 1948.
تتخطّى قراءة التاريخ مفهوم "الاستجرار" حين يتمّ التصويب باتجاه إعادة البناء المعرفي الذي يمنح الباحث إمكانية تظهير جوهر الأحداث الكبرى التي تجسّدت في مراحله، وبالتالي دراسة التطوّرات المفصلية التي أثّرت في تكريس "النظريات" التي رافقت تطلّعات "إيديولوجية" لقوى أثّرت في فرض نظرية "القوة" وتفوّق الحضور.
أسوق ما ورد في المُقدّمة للوقوف على بعض المحطّات التاريخية للأحداث التي كانت العامِل الرئيس في ليّ عنق التاريخ، كانطلاقة نحو ترسيخ الإيديولوجيا الصهيونية كقاعدةٍ ارتكازيةٍ أولى وعَصَب لبناء "الدولة"، ومن ثم الانطلاق إلى مرحلة لا تقلّ سهولة عن القاعدة الأولى، تكون فيها مركز استقطاب سياسي مع "أعداء" الأمس.
تبرز المحاولات الأولى في ما طرحه زئيف جابوتنسكي، الأب الروحي للفكر الصهيوني، إذ يقول "إن تاريخ الشعب اليهودي في المنفى هو التاريخ الذي صنعوه لليهود"، ويتحدّث عن "الاضطهاد" الذي رافقهم وضرورة البحث عن كيانٍ "قومي" لهم. وبالتالي، كان جابوتنكسي يُدرك أن ما يطرحه من "أفكار" سيُشكّل العتبة الأهم لتوطين اليهود في فلسطين، وهذا ما تمّ العمل عليه، لنصل إلى مرحلة أكثر خطورة من الأهداف الاستراتيجية للحركة الصهيونية، حين كتب أن مشروع التقسيم للعام 1937 (لجنة بيل) ليس واقعياً، ولا يمكن أن تكون هناك أية "شراكة" سياسية في فلسطين، مُطالباً بأرض"إسرائيل" كاملة.
التطوّرات المُتسارِعة التي شهدتها فلسطين قبل النكبة في العام 1948 كانت تشير جميعها إلى أن بريطانيا هيَّأت الأرضية للمشروع الصهيوني في احتلال فلسطين، وتشريد 750 ألف فلسطيني، وتدمير قرابة 500 قرية وبلدة في العام 1948، وكل ذلك بالشَراكة مع الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا.
لم تقف واشنطن عند الاعتراف بـ"دولة" الاحتلال في الأمم المتحدة، بل كرَّست سياساتها للوصول إلى "شَرْعَنَتِها" في المنطقة العربية والإسلامية.
الأداء الرسمي العربي كان مُخيّباً للآمال في حرب العام 1948، ومظاهر الخيبة تجلّت في قرارات الجامعة العربية التي فشلت في دعم جيش الإنقاذ، وتخلّي اللجنة العسكرية عن دورها في تنفيذ تعهّداتها، كما حصل مع الشهيد عبد القادر الحسيني.
أظهرت نكبة فلسطين صورة الوصاية البريطانية على دول عربية كثيرة، ما كشف عن حجم التواطؤ لبعض النظام الرسمي العربي، وبالتالي الانكفاء عن قضية فلسطين التي تتوالى فيها "فصول" البؤس السياسي مع طروحات الترويج للتعايُش والتطبيع مع الاحتلال.
الانحدار السياسي الرسمي العربي تسلَّل بعد نكسة حزيران/يونيو في العام 1967 من اللاءات الثلاث في قمّة الخرطوم (لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف)، ليصبح شعار المرحلة "إزالة آثار" العدوان، للعودة إلى حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967.
تكريس شعار "إزالة آثار" العدوان تقاطَع مع سياسة المملكة السعودية والأردن، وقد فتحتا بوابة المُشتركات السياسية مع واشنطن بعد العام 1948، وأثار الترويج لـ"شعار" إزالة آثار العدوان تناقضاً جوهرياً بين المقاومة الفلسطينية والنظام الرسمي العربي آنذاك.
واصلت واشنطن محاولات تعويم "إسرائيل" في المنطقة، وطرحت مشاريعها السياسية لـ"فكّ" الاشتباك مع "دولة" الاحتلال، فتقدّمت بمشروع "روجرز" في العام 1970 لوقف القتال بين مصر و"إسرائيل"، وذلك للبدء بتنفيذ القرار 242 الذي ينصّ على العودة إلى حدود الرابع من حزيران/يونيو. لم يلتزم كيان الاحتلال بتنفيذ الشقّ الثاني من المشروع، وأعلنت مصر حينها حال اللاحرب واللاسلم حتى العام 1971.
تبدّلات استراتيجية كثيرة تلت حرب تشرين في العام 1973، لينفتح المشهد على اتصالات أميركية مع الرئيس المصري أنور السادات، عرّابها وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، ولتثمر سياسة "الثعلب" عن توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" بين مصر وكيان الاحتلال.
نجحت السياسة الأميركية بعد العام 1976 في شقّ الصف العربي، وتصاعدت وتائِر المشاريع الأميركية في المنطقة، وكشفت سياسة الاستقواء بواشنطن لبعض الأنظمة الرسمية العربية عن معالِم المراحل السياسية المقبلة؛ الاستقواء الذي سيوطّد العلاقات الاقتصادية مع دول خليجية لتعويم أنظمتها... وخصوصاً مع دخول مصر الرسمية في التطبيع السياسي بكل صوَره بعد توقيع اتفاقية "كامب ديفيد"، وصولاً إلى الارتهان الكامل للسياسات الإسرائيلية، وترويجها في المنطقة كلاعبٍ رئيسٍ يجب التعايُش معه.
لم يقتصر التطبيع السياسي الرسمي المصري على العلاقات الدبلوماسية، بل أصبح ممر عبور لـ"أفكار" اختلال الموازين وأهمية التعايُش مع الاحتلال، وهو ما طرحه مؤتمر قمّة "فاس" الأولى والثانية في العامين 1981ـ 1982، وروجت له المملكة السعودية التي مارست دوراً خطيراً في الدعوة إلى التطبيع مع "إسرائيل" والاعتراف بها، "شرط" تنفيذ القرار 242. ويُسجَّل هنا رفض الرئيس الرحل حافظ الأسد قرارات القمّتين.
حال التفكّك الرسمي العربي تصاعد، وسجّل مراحل كارثية انعكست على القضية الفلسطينية. انتهجت المملكة السعودية بعد العام 1982 سياسة التسويق لخطاب "التسوية التاريخية"، وهو ما كان عنواناً لاعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بـ"إسرائيل" في العام 1988، مقابل "دولة" في الضفة وغزَّة.. أما القدس واللاجئون، فكانا في مراحل المفاوضات النهائية، لندخل في متاهة "المفاوضات" من 26 عاماً، والتي "أسفرت" عن قبض من ريح.
بعد توقيع "اتفاق أوسلو" في 13 أيلول/سبتمبر 1993، كرَّت سبحة الاتفاقيات والتطبيع العَلني مع الاحتلال، ليدخل الأردن في"اتفاق" (أمني - سياسي - اقتصادي) في العام 1994؛ اتفاقية "وادي عَرَبة" التي كشفت عن العلاقات السرّية مع بعض الأنظمة الرسمية العربية، التي اعتبرت أن قضية فلسطين حِمْل ثقيل، حمّلها "أعباء" حدَّت من دورها الاقتصادي والسياسي في المنطقة والإقليم.
لكن حقيقة الأمر تقول إن بعض الأنظمة الرسمية العربية اعتبرت قضية فلسطين مدخلاً "حيوياً" للعَبَث بالثوابت والاستراتيجيات التي طُرِحت طيلة عقود الصراع.
ما يظهر اليوم من ترويجٍ عَلني للتطبيع يؤكّد الشراكة في "صفقة القرن"، وأن العلاقات التي طفت إلى السطح ليست وليدة مشاريع طارئة، وإنما هي تاريخ من التنسيق المشترك بعد العام 1948.
يبقى القول الفصل للمقاومين على امتداد مساحة الوطن العربي والإسلامي؛ القول الفصل لأبناء فلسطين ونهج المقاومة، في مواجهة مشاريع يُراد منها أن يُكْتَب تاريخنا بأحرفٍ عبريةٍ وفي ظلال "شرق أوسط جديد".