كيف نفهم كلام هنري كيسينجر على ضوء أزمة كورونا؟
يقول كيسينجر إن قادة وزعماء العالم عليهم مهمة أخرى إلى جانب مواجهة الوباء وهي إطلاق مشروع لتهيئة الانتقال إلى نظام ما بعد كورونا.
مع استعصاء أزمة كورونا توارت الكثير من الصراعات الإقليمية التي كانت سابقاً محل اهتمام القيادات السياسية على مستوى العالم، حتى أن وكالات الأنباء باتت تركّز جل أخبارها وتحليلاتها على ارتفاع أعداد الإصابات وطُرُق المواجهة.
شغلت أزمة كورونا الساحة السياسية بالكامل بين تخبّط وارتجال في اتخاذ القرارات جعلت كل قيادة سياسية في كل بلد تركِّز مجهوداتها لوقف انتشار الوباء وتأمين شعبها على المستوى الصحي، وتجنّب أقل خسائر اقتصادية مُمكنة.
مثال على ذلك لم يعد هناك اهتمام في مراقبة تطبيق توصيات مؤتمر برلين حول الأزمة الليبية الذي عُقِدَ في شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، أو مؤتمر ميونيخ الذي عُقِدَ في شهر فبراير/شباط. كذلك تلاشت الاجتماعات المُكثّفة في مؤسّسات الاتحاد الأوروبي بشأن أزمة اللاجئين العالقين بين الحدود التركية واليونانية.
عندما تتفجَّر أزمة عالمية يرافقها غالباً تغيّر في النظام العالمي، وكلما زادت وطالت فترة هذه الأزمة كلما أصبح التغيّر أكبر وأعمق. بالطبع هناك عدّة سيناريوهات للأزمة الحالية، فما زلنا في قلبها. الاقتصاد العالمي سيشهد أزمة ركود أكبر من التي شهدها عام 2007 حيث يتوقع أن تسقط قريباً كثير من القطاعات، وشركات كبيرة ستفلس منها شركات طيران ونقل وقطاعات إنتاج مختلفة للصناعات الثقيلة والملابس والأجهزة التكنولوجية وغيرها من قطاعات ستنهار.
وبما أن مواجهة الأزمة الحالية تركّزت على المستويين المحلي والحكومي، يرى كثير من المُفكّرين والسياسيين والخبراء الاقتصاديين أن هذا الوباء سيتسبَّب في تقوية الحكومات، لأن المواطنين ينظرون إلى حكوماتهم كالمُنقذ الوحيد من هذه الأزمة.
ويتوقع أن يسرّع هذا الوباء من الصراع القائم بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، فالأخيرة بدأت تتعافى من تأثير الوباء في الوقت الذي بدأت فيه الولايات المتحدة الأميركية تفقد السيطرة مع ارتفاع أعداد الإصابات.
الشهر الماضي اتخذت الدول الثماني الأعضاء في "منظمة شنغهاي" للتعاون (SCO)، التي تضمّ الصين والهند وروسيا وباكستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان، قراراً لوضع خطة طريق لاعتماد العملات المحلية والوطنية في التبادل التجاري والاستثمار الثنائي وإصدار سندات، بدلاً من الدولار الأميركي، الأمر الذي سيكون له تأثير مباشر على الاقتصاد الأميركي وهيمنته.
لم يكن لمنظمة شنغهاي أي دور قوي منذ تأسيسها عام 1996 لأسبابٍ كثيرة، كالصراع بين الهند وباكستان. لكن من المؤكّد أن الاتفاق الأخير سيكون له دور في الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة.
من الصعب أن تترك أميركا الساحة التجارية للصين وتنشغل بالكامل في معركتها الداخلية ضد الوباء، ومن المُحتمل أن يأخذ هذا الصراع منعطفاً عسكرياً بين البلدين حتى يصل الطرفان إلى اتفاق مشترك.
دائماً ما أرجع إلى كتاب "World Order" الذي نُشِرَ عام 2014 لوزير الخارجية الأميركي الأسبق البروفيسور هنري كيسينجر الذي شرح فيه كيفيّة تغيّر النظام العالمي على مدى التاريخ بالتزامن مع الأزمات والصراعات التي واجهت العالم.
صحيفة "wall street" نشرت مقالاً لكيسينجر الشهر الماضي يشرح فيه كيف سيُغيّر فيروس كورونا النظام العالمي حيث يقول إن الأوضاع الاستثنائية التي نمرّ بها الآن بسبب وباء الكورونا، أعادت إلى ذاكرته المشاعر التي انتابته عندما كان جندياً في فرقة المشاة 84 خلال مشاركته في معركة الثغرة أثناء الحرب العالمية الثانية في أواخر عام 1944.
وبحسب كيسينجر يسود نفس الشعور بالخطر الذي لا يستهدف أي شخص مُحدَّد، وإنما يستهدف الجميع بشكلٍ عشوائي ومُدمِّر. وفي نهاية المقال كتب أن التحدّي التاريخي أمام قادة العالم يكمن في إدارة هذه الأزمة وبناء المستقبل وأن الفشل في تحقيق ذلك قد يؤدّي إلى إشعال العالم.
وصف كيسينجر يعبّر عن نفس حال التخبّط الذي نعيشه اليوم، فليس هناك قيادة سياسية قادرة على تحديد كيف ومتى ستنتهي هذه الأزمة العشوائية المُدمِّرة.
ويقول كيسينجر أيضاً إن قادة وزعماء العالم عليهم مهمة أخرى بجانب مواجهة الوباء وهي إطلاق مشروع لتهيئة الانتقال إلى نظام ما بعد كورونا.
قدّم كيسينجر توصيات لعبور الأزمة والدور المشترك على المستوى العالمي، حيث تحدّث عن دور الولايات المتحدة والديمقراطيات للحفاظ على النظام العالمي الليبرالي الذي يتعارض مع الانغلاق القائم بين دول العالم. وأعطى كيسينجر تحليلاً للوضع الحالي والأزمات المُرتقبة وكيفيّة مواجهتها بالتعاون بين دول العالم.