الأثر السَّلبي للعقوبات الاقتصادية في شعوب الدّول
مع الوقت، تحول نظام فرض العقوبات الاقتصادية تدريجياً من مجلس الأمن إلى الدول الكبرى، وخصوصاً الولايات المتحدة، فأصبحت العقوبات إحدى أدوات السياسات الخارجية.
العقوبات الاقتصادية هي إجراءات تتبعها منظَّمة الأمم المتحدة بحق الدول المتفق على عقابها داخل مجلس الأمن، بسبب إخلالها بالشرعية الدولية وقواعد القانون الدولي، وتهديدها السلم والأمن الدوليين، وهي إجراءات تتخذ بقصد التأثير في الدولة المدانة للتراجع عن مواقفها أو تصرفاتها أو إجراءاتها الممارسة من قبل حكوماتها، لتجنب اتخاذ إجراءات أشد قساوة، كالعقوبات العسكرية الحربية.
وتشمل العقوبات الاقتصادية فرض قيود على التجارة الدولية مع الدولة المستهدفة، من حظر توريد الأسلحة والتكنولوجيا، وعدم التعامل مع موانئها أو مطاراتها، والحد من التصدير أو الاستيراد أو التعامل بالبورصة والعملات الدولية، كالدولار الأميركي الذي تعتمد عليه معظم دول العالم في مدفوعاتها، ومنع الحوالات والتحويلات، وتحديد أنواع مستوردات الطعام والدواء وغيره إلى البلد المستهدف، لتغيير النظام فيه، أو الضغط عليه لتغيير سياساته، وإرغامه على تقديم التنازلات تجاه مسألة أو قضية ما.
ومع الوقت، تحول نظام فرض العقوبات الاقتصادية تدريجياً من مجلس الأمن إلى الدول الكبرى، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، فأصبحت العقوبات إحدى أدوات السياسات الخارجية لها، تستخدمها هنا وهناك، بدلاً من شنّ الحروب المكلفة وغير المضمونة النتائج.
وتمثل المادتان 39 و41 من ميثاق الأمم المتحدة الإطار القانوني الذي تستند إليه الأمم المتحدة ومجلس الأمن في فرض العقوبات الاقتصادية.
كانت أولى تجارب الأمم المتحدة في تطبيق العقوبات الاقتصادية بموجب المادة 41 في العام 1966 على روديسيا الجنوبية، وأصدرت القرارين 216 و217 في العام 1965 والقرار 277 في العام 1970، ومن ثمّ العقوبات التي فرضتها على جنوب أفريقيا بالقرار 418 الصادر في العام 1977، وأعيد فرضه بالقرار 558 الصادر في العام 1984، لكن الأمر تطوّر بعد الحرب الباردة إلى سياسة تطبيق العقوبات الشاملة، وخصوصاً بعد احتلال الكويت من قبل العراق. وقد طبّقت في 3 مواقع، هي العراق وهاييتي ويوغسلافيا والصومال وليبيا وليبيريا وأنغولا ورواندا والسودان.
أما تلك التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية، فكانت جميعها خارج نطاق القانون الدولي، ومن ذلك ما فرضته على إيران وسوريا وكوريا الشمالية وكوبا من عقوبات اقتصادية خانقة، وذلك من خلال تحكمها بأدوار مؤثرة في العديد من الأنظمة السياسية التي ترتبط معها بمصالح مشتركة (كالعقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي).
لقد استطاعت الولايات المتحدة من خلال امتلاكها القوة العسكرية الهائلة، ونفوذها الاقتصادي المسيطر على المفاصل الأساسية للاقتصاد العالمي، وهيمنة الدولار الأميركي الذي يسيطر على 85% من المعاملات التجارية حول العالم، وسيطرتها على قرارات معظم المنظمات الدولية، بما فيها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أن تمتلك القدرة على التدخل في السياسات الاقتصادية لتلك الدول، وفرض تنفيذ تلك العقوبات بما يخدم مصالحها، عبر التحشيد الدولي لإقرارها من خلال المنظمات الدولية، ولا سيما الأمم المتحدة، أو من خلال إجبار حلفائها (خارج نطاق المنظمة الدولية) على تطبيقها تحت طائلة فرض عقوبات من جانب واحد على الدولة أو الشركة التي تتعامل مع الدولة المعاقَبة، فتتحول العقوبات بهذه الطريقة من عقوبات أميركية إلى دولية.
وقد أنشأت الولايات المتحدة لتحقيق هذا الغرض قانوناً في آذار/مارس 1969، أسمته قانون "هيلمز - بيرتون". وبذلك، تلتزم معظم الدول بقرارات الولايات المتحدة، وهذا ما يمكّنها من تحقيق أهدافها وسيطرتها على قرار الدول بأقل مجهود وأقل خسائر.
ولا بدَّ من الإشارة إلى أن مثل هذه العقوبات لم تؤدِ أبداً إلى تغيير نظام الحكم في الدول المستهدفة، بل على العكس، فقد أدت إلى إفقار سكان الدول المستهدفة وزيادة الجريمة والانفلات.
كذلك، لا بد من الإشارة إلى أن الأمم المتحدة اعتبرت هذه العقوبات (الأحادية) المتخذة في غير إطار المنظمة الدولية وسيلة للقسر السياسي والاقتصادي ضد البلدان النامية، والتي تستخدمها الدول الكبرى الأعضاء في مجلس الأمن كوسيلة سياسية، خرقاً سافراً لمبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة (قرار الجمعية العمومية رقم 68/200 بتاريخ 20 كانون الأول/ديسمبر 2013).
بدأت الولايات المتحدة أول عقوباتها الأحادية على سوريا في العام 1979، حين تم اعتبارها دولة داعمة للإرهاب، تبعتها عقوبات في العام 2004 (بعد غزوها للعراق)، أدخلت قانون محاسبة سوريا حيز التنفيذ، فجُمِدَت الأصول السورية الحكومية في الولايات المتحدة، ومُنِعَت البلاد من استيراد كثير من التجهيزات ذات المكون الأميركي، ثم أتت عقوبات العام 2011، فحدّت من إمكانيات تصدير النفط والفوسفات وعمليات الاستيراد والتصدير، ومنعت التعامل مع المصرف المركزي والمصرف التجاري، وحظرت تعامل الدول معها بالدولار الأميركي.
كما أصدر المجلس الأوروبي عقوبات عامة على سوريا في العام 2011، شملت المؤسَّسات المصرفية الرسمية والصادرات الأساسية ومستوردات مختلفة، وعدم منح تأشيرات الدخول (غير معلن) للمواطنين السوريين إلا في حدود ضيقة جداَ، ورفض المصارف الدولية التعامل معهم أو فتح حسابات لهم في معظم الدول الغربية والعربية، وهو ما أدى إلى إنهاك المواطنين السوريين الذين عانوا من ويلات الحرب بشكلٍ كبير.
وفي الوقت نفسه، سمحت لأطياف عديدة تحت مسمى المعارضة المسلحة وغير المسلّحة بالحصول على استثناءات من هذه العقوبات، ليتمكنوا من زيادة تمويلهم عن طريق تصدير النفط، حتى إن قانون قيصر الذي فرض عقوبات على أفراد سوريين، وعلى المصرف المركزي، وعلى حلفاء سوريا، وأي بلد يوفر للحكومة السورية الطائرات أو قطع غيار الطائرات أو مشاريع الهندسة والبناء والطاقة والتكنولوجيا والمواد المستخدمة في الصناعة والمواد النفطية ومشتقاتها وغيره، كان يهدف في بدايته إلى إقامة منطقة حظر طيران لدعم المعارضة السورية وإرفاقه بقوانين أخرى لإسقاط الحكومة السورية.
إنّ نظام الجزاءات والعقوبات الواردة في المادة 41 من الفصل السابع من الميثاق هو أسلوب غير ناجح. وقد أثبتت تجارب تطبيقه عدم فعاليته في تحقيق أهدافه في كل الحالات التي طُبّق فيها، لأسباب أقلّها أنّه لا يصيب الجهة المقصودة، وهو لا إنساني، لأنه يأخذ شكل العقوبات الجماعية، وبالتالي لا يجب اعتباره مشروعاً من الناحية القانونية، لأنه عملياً لا يطبّق إلا على الشعوب، فيؤذيها وحدها.
إن العقوبات الاقتصادية وأثرها في واقع الأمر ومنطقيته، وبالتطبيق العملي الواقع على الجهة المقصودة (أي فئة الحكام والمتنفذين)، لا تصيبها ولا تتأثر بها، لكنها تشكّل نوعاً من العقوبات الجماعية غير المبررة التي تصيب كل أفراد المجتمع، وتلحق الضّرر الكبير بالفئات الضعيفة والفقيرة من سكان تلك الدولة غير المقصودة بالقرار.
ويفسّر بعض الساسة هذا الأسلوب من العقوبات الجماعية بأنه محاولة للضغط على المدنيين الأبرياء، من خلال إيذائهم وتجويعهم ومحاصرتهم وقتلهم، بهدف التأثير في طرف آخر ثالث (وهو أفراد النظام)، لإرغامه على تقديم التنازلات، وإجباره على التراجع عمّا فعله أو اكتسبه على الأرض، وهذا ما يعتبر نوعاً من أنواع الإرهاب للشعوب، ولا يمكن تبريره بأن "الغاية تبرر الوسيلة".
لقد أثبتت التجارب فشل هذا الأسلوب من الجزاءات (العقوبات) برمّته في تحقيق أغراضه في أي حالة استخدم فيها، ما يعني فقدان المبرر لاستمراره واعتماده، وأن التّمادي في استخدامه من دون تحقيق هدفه، يتحوّل إلى مجرّد عقوبة جماعية أو وسيلة لتحقيق أغراض أو مآرب سياسية أخرى.
كما كشفت الممارسة عن فشل إمكانية تطبيق هذه الجزاءات على الجهة التي قصدها المشرع في الميثاق، وهي الفئة الحاكمة أو صاحبة القرار، باعتبارها الأقوى والأكثر قدرة على النّجاة من الوقوع تحت طائلة سلبيات تلك العقوبات، الأمر الذي يجعلها وسيلة لانتهاكات شاملة لحقوق الإنسان في تلك الدول، بما لا يتفق مع القانون والميثاق.
ولذلك، يعتبر نظام العقوبات بتصميمه الحالي، سواء الممارس من قبل المنظمة الدولية أو من خارجها (أي التطبيق الأحادي)، نظاماً فاشلاً بالمطلق في تحقيق أهدافه التي رسمها المشرع... أو السياسي، ولا يؤدي في النهاية إلا إلى إلحاق الضرر بجهة واحدة، وهي الشعب.