البشرية من الصّراع الطبقي والحضاري إلى صراع الأنواع
هل التطور الناتج من "الهندسة الوراثيّة" والتعديل الجيني، قادر على صنع إنسانٍ جديدٍ يمتلك قدرات نوعية عالية وينافس صنف البشرية في السيطرة على هذا العالم؟
يختلف المفكّرون في تصنيف نوع الصراعات التي نعيشها في يومنا هذا، سواء في العالم بشكلٍ عام أو داخل الدولة بشكل خاص. قد ينسب بعضهم الصراع إلى أسبابٍ طبقيّة، بمعنى التفاوت الاقتصاديّ، بينما يرى آخرون أن التفاوت الحضاريّ هو المسبب الرئيسي له.
وبذلك، تتعدد المدارس والأفكار في فهم أسباب الصراعات القائمة بين البشر وتحليلها، ويطرح سؤال: هل الإنسانيّة اليوم أمام صراع جديد يتعلق بالنوع؟ أي هل التطور الحاصل الناتج من "الهندسة الوراثيّة" والتعديل الجيني-الوراثي للحمض النووي، قادر على صنع أو خلق إنسانٍ جديدٍ يمتلك قدرات نوعية عالية وينافس صنف البشرية في السيطرة على هذا العالم؟
لفهم الصورة بشكلها الحقيقي والدقيق، علينا أن ندرك أنّ الحديث المتداول في الآونة الأخيرة حول صناعة إنسان جديد أو نوع جديد من البشر، ليس شبيهاً بقصة خيال علمي أو فرضية تنتظر التطبيق، بل هو بدايات واقع جديد بدأ يتحقق بشكلٍ عملي في تشرين الثاني/نوفمبر 2018 على يد العالم الصيني والأستاذ الجامعي في علوم الأحياء هي جيانكوي (He Jiankui)، الذي أعلن لأول مرة عن استخدامه تكنولوجيا وتقنية "CRISPR-Cas 9" - (التكرارات العنقودية المتناظرة القصيرة منتظمة التباعد)، من أجل تعديل جيني أو تغيير جينات الأجنة - الطفلتين التوأم. هذه التقنية تكون مضادة للعديد من الأمراض المعدية، وتساهم في الدفاع ضد الفيروسات (على رأسها الإيدز).
بعد هذا الإنجاز العلمي، بدأت أصوات مؤسَّسات علمية وشركات احتكاريّة ووسائل إعلام غربية تتعالى وتنتقد الصين بشكل عام، والعالم جيانكوي على وجه الخصوص.
وقد ارتكزت هذه الأصوات على قيم أخلاقية عظيمة تنادي بعدم السماح بإجراء تجارب على البشر، وتعارض بشدة العمل الذي قام به العالم الصيني جيانكوي بتعريض أرواح الأجنّة للخطر، الأمر الذي يتعارض مع أسمى أخلاقيّات مهنة الطب ولا يتماشى معها أبداً (ما أدى في نهاية المطاف إلى الحكم عليه بالسجن 3 سنوات من قبل المحكمة الصينيّة في "شينزين" مع غرامة 3 ملايين يوان بسبب ممارساته الطبية غير المشروعة).
ولكننا، في المقابل، نندهش أمام الحقيقة الأخرى المتمثلة بالتجارب الكبيرة التي قامت بها الولايات المتحدة الأميركية من خلال معاهدها الخاصة بالأبحاث العلميّة، والتي نفّذتها على البشرية بشكلٍ عام، وعلى مواطنين أميركيين بشكلٍ خاص.
على سبيل المثال، نذكر مقر "فورت ديتريك" (Fort -Detrick) في ولاية ميريلاند، الذي تأسس خلال الحرب العالمية الثانية، وكان مقر تجارب للحرب البيولوجية في الولايات المتحدة، إضافةً إلى عملية المعطف الأبيض (Operation White-coat) التي تضمنت حقن أفرادٍ من القوات المسلحة بعوامل معديةٍ لرصد آثارها في البشر. وغالباً ما كانت هذه التجارب تُنفّذ بشكلٍ غير قانوني، ومن دون علم أصحاب الشأن أو موافقتهم.
ونذكر أيضاً تجربة "توسكيجي للزهري" (The Tuskegee Legacy Project: willingness of Minorities to Participate in Biomedical Research)، وهي إحدى أكثر الدراسات البحثيّة الطبيّة والحيويّة والسريّة السيئة السمعة، والتي أقيمت بين الأعوام 1932 و1972 في ريف ولاية ألاباما في الولايات المتحدة.
تتبعت هذه الدراسة أكثر من 600 رجل من الأميركيين الأفارقة الذين لم يتم إخبارهم مسبقاً بأنهم مصابون بمرض الزهري، وتم منعهم من الوصول إلى علاج البنسلين المعروف، الأمر الذي أدى بعدها إلى سن القانون الوطني للبحوث في العام 1974، لضمان حماية العناصر البشرية في التجارب.
وبين خمسينيات وستينيات القرن الماضي، قام الاختصاصي بالفيروسات، والباحث المعروف في السرطان، تشيستر م. ساوثام (Chester M. Sotham)، بحقن مرضى سرطان وأفرادٍ أصحاء وسجناء في سجن أوهايو بخلايا من نوع هيلا (HeLa).
ونذكر أيضاً معهد "شيكاغو"، الذي يتهمه مواطنون أميركيون بإجراء تجارب على البشر، تتعلق بحقن أمراض أو تجارب إشعاعيّة أو تجارب جراحيّة وتعذيب واختبارات عقارات هلوسة.
لقد أدت حقيقة اكتشاف التجارب الحكومية على البشر إلى الغضب الشعبي والتحقيقات وجلسات الاستماع في الكونغرس، بما في ذلك لجنة الكنيسة، ولجنة روكفلر في العام 1994، واللجنة الاستشاريّة لتجارب الإشعاع على الإنسان، وغيرها من التجارب التي قام بها الجيش الأميركيّ في حروبه على منطقتنا، وخصوصاً العراق، ما أثّر حتى في جنوده من النواحي الصحيّة والنفسيّة، ووصل إلى أطفالهم على شكل إعاقات وتشوهات خلقيّة.
مما لا شك فيه أنّ الإنجاز العظيم للعالم الصيني جيانكوي شكّل ضربة قاسية للعديد من الدول والشركات الاحتكارية والمعاهد والمؤسسات البحثية في الغرب بشكل عام، والولايات المتحدة الأميركيّة بشكل خاص، التي سعت بكامل جهدها لاحتكار هذا السوق الجديد الذي اعتمد على التعديل الجيني و"الهندسة الوراثية"، من خلال التكنولوجيا الدقيقة وزراعتها بالبشر وحقن الأغذية الصحيّة، الأمر الذي شكل نقلة نوعيّة وعلامة فارقة للإنسان، سواء على صعيد النوع والمستوى والجودة وزيادة متوسط أعمار البشر أو التغلب على أمراض وراثيّة معقدة (طبعاً يشمل ذلك القدرة على تحمل الكلفة العالية لهذه التقنيّة).
ويتوقع العلماء أن تستطيع هذه التقنيّة في المستقبل صنع إنسانٍ جديد ذي قدرات عقليّة وحسيّة أعلى، وقدرات نفسية وشكلية أفضل، وقدرة عضلية أقوى، فهذه التقنيّة من شأنها أن تمنح الإنسان أفضليّة ومزايا وقدرة يتفوق بها على بنية الإنسان الحالي وتركيبته.
والسؤال هنا: في حال تم تعديل هذا النوع من البشر وإنتاجه، كيف سيتعامل معنا، نحن الذين لم نتمكّن من نقل وإدخال أو حقن هذه التقنيات والمزايا داخل أجسادنا وخلايانا؟
إجابة من التاريخ
تجلّى عبر التاريخ البشري العديد من الأفكار العنصريّة من دون وجود اختلاف نسبي كبير بين الأنواع، إذ كان العالم شاهداً على المعاملة الوحشية والتطهير العرقي ومحاولات الإبادة للسكان الأصليين في أميركا الشمالية (الهنود الحمر) على يد المهاجرين الأوروبيين، على الرغم من وجود اختلاف ضئيل جداً في النوع أو العقليّة أو الذكاء أو العرق أو الشكل.. وهي جميعها لا تعطي أي أفضلية مطلقة أو شرعية لطرف دون آخر، بل هي مجرد خصائص تعددية ومزايا مختلفة، سواء كانت للأوروبيين أو للسكان الأصليين في القارة الأميركية الشمالية.
لكن للأسف تم تطهير ذلك البلد من السكان الأصليين بطريقة وحشية تحت شعارات تتعلق بدنو السكّان الأصليين وعلو الرجل الأوروبي الأبيض، ناهيك بالقوانين العنصرية التي سُنّت، والتمييز الذي تخلل نظام الفصل العنصريّ الأميركيّ، فضلاً عن كل ما حصل أيضاً تجاه السكان الأصليين في أستراليا ونيوزيلندا، وهم أيضاً ضحايا العنصريّة، وتمت إبادتهم على يد الدول الاستعماريّة الأوروبيّة.
لقد تسببت الأفكار العنصريّة والإيمان بسمو النوع بأكبر حرب شهدتها البشريّة، وهي الحرب العالميّة الثانية، مع توثيق لكل الجرائم النازية والفاشية من حرق وذبح على أساس عرقي وديني.
ولا زالت هذه الأفكار مستمرة حتى يومنا هذا، بتحطيم الشعوب وإذلال الإنسان. إننا نشير هنا إلى الفكر الصهيوني كأحد النماذج المماثلة للعنصريّة التي تقسم البشر عرقياً، حتى على مستوى اليهود أنفسهم، فاستناداً إلى استطلاع أجراه أمير ألون في جريدة "يديعوت أحرونوت" (بتاريخ 31 كانون الثاني/يناير 2020، ص 5)، تبيّن أن 33% من المواطنين اليهود في "إسرائيل" يرفضون الزواج من يهود أثيوبيين، كما أن 22% منهم يشككون بيهودية اليهود الأثيوبيين.
إن كان كل ما ذُكر أعلاه، من فكر وممارسات عنصرية وتمييز عرقي، حصل على الرغم من عدم امتلاك أي طرف أفضلية نوعية حقيقية، فكيف سيكون المستقبل إذا امتلك الإنسان الجديد أفضليّة حقيقيّة في النوع؟
خطوة جيانكوي الصيني: لمصلحة من؟
تسعى الشركات الاحتكارية والمعاهد التابعة لها إلى تطوير "الهندسة الوراثية"، لامتلاك هذه القدرة وتحويلها إلى خدمة استثمارية مربحة تجني منها الأموال الطائلة، أي احتكار العلم والسيطرة عليه (رغم أنه إنجاز بشري جماعي)، ووضعه بيد طرفٍ واحد لا يتوانى أو يتردد عن ربط الدواء والغذاء بشروطه أو مصالحه السياسيّة، ويسعى لاستغلال الشعوب الفقيرة النامية وإخضاعها.
وعلى الرغم من أن خطوة العالم جيانكوي قد تكون غير أخلاقية، فإننا لو أخضعناها للنسبية، لوجدنا أنها تحمل مؤشرات إيجابيّة تتعلق بعدم احتكار هذه التكنولوجيا، ما يعطي إمكانية أكبر لاستفادة دول وشعوب فقيرة منها، ولو بشكلٍ جزئيّ، فخضوع أي منتج لسوق العرض والطلب يبقى أفضل بكثير من احتكار فئة معينة له.
التعديل الجيني من الخيال إلى الواقع
لقد كانت رواية الخيال العلمي "جزيرة التنين" لجاك ويليامسون، والتي نشرت في العام 1951، هي البداية، إذ كان أول من استخدم مفهوم "الهندسة الوراثية". وقد منحت الرواية في ذلك الحين كل قرّائها الفكرة الخيالية التي تتعلق بصنع إنسانٍ جديد.
بعدها، أنشأ بول بيرغ أول جزيئات DNA في العام 1972، والتي كانت مجمعة من فيروس القرد SV40 وفيروس "لمدا". وهكذا، انطلقت أولى الخطوات العلمية في تغيير الحمض النووي وتعديله، وكان العالم بول بيرغ أول من قام بتصنيع خلية DNA مؤشبة.
وبعد ذلك أتى جاك ويليامسون، الذي كان أول من استخدم مصطلح "الهندسة الوراثية" في سبعينيات القرن الماضي، ليأتي بعد سنة من صناعة أول خلية DNA مؤشبة، العالمان يربرت بويرز وستانلي كوهن، اللذان نجحا في صناعة أول كائن حي معدّل وراثياً في العام 1973، من خلال إدخال جينات مقاومة للمضاد الحيوي في بلازميد البكتيريا الأشريكية القولونية.
وفي العام 1974، كان رودلف جانيسش أول من أنشأ فأراً معدلاً جينياً، ومن ثم تأسس معهد "غينيتيك" في العام 1976 "للهندسة الجينية" على يد هيربرت بوير وروبرت سوانسون، وأعلنا حينها عن إنتاج "الإنسولين البشري المهندس وراثياً" في العام 1978.
أما النقلة الأكبر، فقد كانت في العام 1987، باكتشاف طريقة جديدة للهندسة الوراثية أقل كلفة وجهداً، على يد علماء يابانيين في جامعة أوساكا.
وفي العام 1999، أسّس المعهد الصيني "الجينوم- BGI" في بكين، والذي يبحث في العديد من المواضيع، أهمها الجينات المعرفية لدى الإنسان.
وفي العام 2012، استطاع العالم الأميركيّ بروس كونكلين، من معاهد "غلادستون" في سان فرانسيسكو في كاليفورنيا، تطوير الهندسة الوراثية لمساعدة تقنية كريسبر اليابانية.
وفي العام 2018، تم الإعلان الرسمي عن ولادة أول طفلتين معدلتين جينياً "لولو" و"نانا" على يد العالم الصيني جيانكوي، بعد أن تم تعديل الحمض النووي الخاص بهما، لمنعهما من الإصابة بفيروس الإيدز.
وكان تم اكتشاف بقايا من أشباه البشر في جزيرة فلوريس في إندونيسيا وفي العام 2003، تعود إلى نوع من المخلوقات التي انقرضت منذ آلاف السنين. ويختلف هذا النوع عنا بقوته الجسدية وكثافة عظامه، ولم يزد طوله على متر، ولم يتمتع بذكائنا.
أطلق العلماء على هذا النوع اسم "الهوبيت" أو "homo floresiensis". وإثر هذا الاكتشاف، وُضعت فرضيات عن سبب انقراضه، من بينها أن أسلافنا، ومنذ آلاف السنين، مارسوا التطهير العرقي بحق هذا النوع من البشر، مستغلين ذكاءهم الذي امتازوا وتفوقوا به عن "الهوبيت".
بناءً على كل ما ذكرناه أعلاه، واستناداً إلى مقولة المفكر كارل ماركس "إن التاريخ يعيد نفسه"، هل سيتعامل معنا "الإنسان المعدل جينياً" في المستقبل كما تعامل أسلافنا مع "الهوبيت"؟ وبهذا، يكون التاريخ قد أعاد نفسه، مرةً لنكون مجرمين، ومرةً لنكون ضحايا؟!