نحو اقتصاد وطني يقطع مع التبعيّة.. كورونا نقطة تحوّل في تونس؟
المشهد الذي تناقله العديد من وسائل الإعلام المحلية والأجنبية لم يرافقه توضيح للرأي العام بأن الروبوت "PGUARD" من صنع شركة تونسية.
بدا مشهداً غريباً لمن اعترضه، ولافتاً لكل من اطّلع عليه: رجل آلي يجوب الشوارع الرئيسية للعاصمة التونسية لمراقبة هُويات المارة ومعاينة التراخيص الاستثنائية للعمل، ويجري التحكم به من غرفة العمليات في وزارة الداخلية عبر الكاميرات المزودة به.
يأتي ذلك مع بدء البلاد بتطبيق قرار الحجر الصحي العام. وقد اختلفت المواقف وردود الأفعال في مواقع التواصل الاجتماعي بين التندر والإعجاب باستخدام هذه التقنية الحديثة التي قد تصبح في قادم الأيام رديفة أساسية لتعزيز العمل الأمني في مختلف المجالات، وأهمها محاربة الإرهاب.
المشهد الذي تناقله العديد من وسائل الإعلام المحلية والأجنبية لم يرافقه توضيح للرأي العام بأن الروبوت "PGUARD" من صنع شركة تونسية، ما يعني أننا نتحدث عن تقنية تونسية صُمِّمت وأُنجزت بخبرات أبناء البلد.
رسالة تأتي في غمرة أزمة كورونا، لتبعث نقطة ضوء بأن في هذا البلد جيلاً جديداً قادراً على الإضافة والابتكار والمزاحمة في عالم الذكاء، لمَ لا؟ وخصوصاً حين نعلم أيضاً أن فريقاً من أساتذة جامعيين ومهندسين في مدينة صفاقس، عاصمة الجنوب، نجح في صناعة جهازي تنفّس اصطناعي بدقة عالية تمكّن من التحكم بمستوى الأوكسيجين، وذلك في مسعى للمساعدة على مجابهة جائحة كورونا، في ظل محدودية أسرّة الإنعاش في المستشفيات، وانعدام تزويد البلاد بهذه الأجهزة من الخارج في هذا الظرف، فضلاً عن ارتفاع أسعارها.
وتمَّ الاتفاق على التنسيق مع مختلف الصناعيين، لإنتاج كمية مهمة من أجهزة التنفّس، لتزويد المستشفيات التي تعاني من نقص كبير في هذه المعدات بها.
قد لا تكون هذه المبادرة التضامنية هي الوحيدة في مجابهة أزمة كورونا، بالتعويل على الإمكانيات الذاتية، إذ أقدم عدد من طلبة المدرسة الوطنية للمهندسين في سوسة، بالاشتراك مع شركة مختصة في الطباعة ثلاثية الأبعاد، على صناعة أقنعة واقية مطبوعة بتقنية ''3D''، لحماية الكوادر الطبية في ظل انعدام الكمامات الواقية.
إنها غيض من فيض من أمثلة تؤكد أن لتونس من الخبرات والكفاءات المقتدرة في المجالات كافة، ما يخوّلها أن تستثمر في رأس مالها البشري، وأن تعول على إمكانياتها الذاتية في التمكّن من ناصية العلوم وتوظيفها في خدمة النهوض باقتصاد البلاد، وتحقيق رقمنة الإدارة، وتركيز أسس التعليم عن بعد أو ما يعرف بالتعليم الافتراضي.
يبدو أن هذه المعركة تفتقد في الأساس إلى إرادة سياسية تشجّع الذكاء التونسي، وتحتضن المبادرات الطموحة، وتوفر لها أسباب النجاح، في دولة يتخرج من جامعاتها سنوياً المئات من طلبة الهندسة، بلا فرص عمل، ولا إمكانيات حقيقية لتحويل مشاريع تخرجهم إلى مشاريع منتجة ومشغّلة تحقق قيمة مضافة، الأمر الذي يدفع معظمهم إلى اختيار الهجرة سبيلاً لتحقيق طموحاتهم وتنفيذ ابتكاراتهم.
الأرقام المفزعة التي تسجّلها تونس سنوياً لهجرة الكفاءات تؤكد أن النزيف بلغ حداً مفزعاً، ويتطلب يقظة وقرارات جريئة من أصحاب القرار، ففي السنوات الأخيرة، اختار أكثر من 95 ألفاً من الكفاءات في مجال الهندسة والطب والتعليم العالي مغادرة البلاد، من دون أن تتخذ الحكومات المتعاقبة (8 حكومات خلال 9 سنوات) أي مبادرات جدية لوقف هذا النزيف.
والحال أن أدمغة البلاد كان يمكن أن تكون سنداً لها في الحرب ضد الوباء، وركيزة أساسية في تحريك عجلة الاستثمار والإنتاج، لخروجها من ضائقتها المالية، عبر تطوير المشاريع المجددة والذكية، والقطع مع التبعية للأسواق الأوروبية، وعدم الارتهان لإملاءات المؤسسات المانحة التي أغرقت البلاد في دوامة المديونية.
في تونس التي تزخر بالكفاءات والطاقات المبدعة، كشفت جائحة كورونا أن خطابات سياسييها المتكررة عن رقمنة الإدارة، وإرساء الإدارة السريعة، والعمل عن بعد، تقف اليوم أمام مشهد معقّد يؤكد غياب العدالة الرقمية بين المناطق والفئات الاجتماعية، ما حال دون تمكّن كل من وزارة التربية ووزارة التعليم العالي من مواصلة الدروس عن بعد، في ظل قرار الحجر الصحي، فالأمر لا يقف على غياب برنامج للتعليم الافتراضي جاهز للاستغلال أو غياب التجهيزات اللازمة لذلك فحسب، بل يتعداه إلى عدم توفر الكهرباء لدى عددٍ من الأسر، وافتقاد العديد من الطلبة إلى الوسائل التقنية الدنيا، في بلد يتخطّى فيه معدل الفقر نسبة 20 في المئة.
فقراء تونس من الفئات الاجتماعية الهشة التي تقتات من جرايات زهيدة تمنحها إياهم الدولة، فضلاً عن المتقاعدين، وقفوا في اليوم الأول للحجر الصحي في طوابير طويلة أمام مراكز البريد، أملاً في نيل جراياتهم، معرضين أنفسهم وغيرهم لخطر العدوى بالفيروس، فالدولة بعد 64 عاماً من استقلالها ما زالت تصرف معظم الجرايات نقداً في مراكز البريد.
هي هنات كشفتها أزمة كورونا، ويعرفها التونسيون ويتعايشون معها. ولا يأتي تسليط الضوء عليها في هذا الظرف من قبيل حب جلد الذات أو البحث عن كبش فداء لتحميله المسؤولية، وإنما للتأكيد أن تونس يمكن أن ترسم خطاً سياسياً وطنياً بعد جائحة كورونا، يعيد مراجعة المنهاج الاقتصادي في استقلال تام عن كل الإملاءات الخارجية، بما يعزز مشاعر الانتماء، ويحفّز الأداء والرغبة في التفاني والعطاء، ويشجّع كفاءات البلاد على نحت معركة البناء والنماء، في استقلال تام عن كل تبعية اقتصادية، وفي قطع مع إملاءات المؤسسات المانحة.