العالم ليس جمعيات خيرية وإردوغان ليس صلاح الدين

المطلوب منا، نحن الفلسطينيون، أن نفتح عيوننا جيداً، فالمرحلة الحالية هي مرحلة الفرز بين الأعداء والأصدقاء والحلفاء، وليست مرحلة الضبابية، فلا يوجد ما يمكن الخوف عليه، والقصّة أصبحت في نهايتها.

  • العالم ليس جمعيات خيرية وإردوغان ليس صلاح الدين
    الزاوية الحقيقية لتوصيف الحالة التركية السورية هي الإجابة على السؤال المركزي: هل هذا عدوان تركي أم لا؟ 

في وقت سابق، طالب الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بسحب القوات السورية من إدلب، علماً أنَّها أرض سورية! فهل إردوغان هو خليفة المسلمين كي يعطي نفسه هذا الحقّ؟ في الحقيقة، إنَّ تركيا تغوَّلت على سوريا، واحتلَّت أرضاً من أراضيها.

قال السياسيون الفلسطينيون إنَّهم مع سيادة سوريا على كامل أراضيها، وهو يعتبر موقفاً سياسياً، ففي نهاية المطاف، إنَّ سوريا أرض عربية وليست تركية، ومحاباة تركيا يجب ألا تتم من خلال التنازل عن أرض عربية، ولا يجوز بيع إرث كبير مما قدمته سوريا للمقاومة الفلسطينية من أجل عدة قيادات متواجدة في تركيا، فلا يوجد وجه مقارنة بين ما قدمته سوريا لمقاومة الشعب الفلسطيني وما تقدمه تركيا من مستشفيات ومحطات تحلية للمياه.

لذلك، إنّ المطلوب منا، نحن الفلسطينيون، أن نفتح عيوننا جيداً، فالمرحلة الحالية هي مرحلة الفرز بين الأعداء والأصدقاء والحلفاء، وليست مرحلة الضبابية، فلا يوجد ما يمكن الخوف عليه، والقصّة أصبحت في نهايتها.

عادةً، يطالب الناس السياسيّ بموقف، وليس بتحليل سياسيّ، والموقف هو: هل أنت مع التدخّل التركي في سوريا أو ضده؟ 

في التّحليل السّياسيّ، كلّ شيء يمكن أن يُقال، وقد يكون صحيحاً أو غير صحيح، لكنَّ الأهمّ هو توصيف المشهد أولاً، فهل ما يحصل هو عدوان تركي أو لا؟ هل هو احتلال أم لا؟ إنّ المطلوب هو أن يكون النقاش بهذا الشكل أولاً، وليس الخوض في التفاصيل.

في التحليل السياسيّ، تكون هناك مساحة للاختلاف، لكن في الموقف السياسيّ، يتم الذهاب إلى زوايا ليست محلّ خلاف، وواضحة وضوح الشمس، من مثل: هل هذا عدوان تركي أم لا؟ 

أما مشكلة تركيا مع اللاجئين، وما تريده من دخولها الأراضي السورية، وكيفية تحقّق ذلك، فهو محلّ خلاف بين المحللين السياسيين، تماماً عندما يُعلن نتنياهو ضم الأغوار مثلاً، فيذهب المحلّلون إلى البحث في الحدود والأراضي الزراعية والتسهيلات والأضرار الناتجة من قرار الضم، لكن الأهمّ هو الموقف السياسي من قرار ضمّ الأغوار، ما هو الموقف الفلسطيني لمواجهة ضمّ الأغوار؟ هذا هو السؤال المركزي، كيف يمكن جمع الصفوف داخلياً وخارجياً لمنع إجراء الضم؟

هذا هو دور السّياسيّ في اتخاذ موقف سياسي، وليس الذهاب إلى التحليل السياسي. بالضبط كما حدث عند إعلان صفقة القرن، فقد أصبح بعض السياسيين محللين سياسيين بدلاً من اتخاذهم مواقف سياسية، وصاروا يقولون إنَّ صفقة القرن جاءت لإنقاذ نتنياهو من الانتخابات، لكن كان الأجدر بهم اتخاذ مواقف سياسية لمواجهة الصهيوني في القدس. 

الزاوية الحقيقية لتوصيف الحالة التركية السورية هي الإجابة على السؤال المركزي: هل هذا عدوان تركي أم لا؟ 

إذا كان عدواناً، فإنّ ثمة خطوات ومواقف تترتب عليه، وتختلف تماماً عندما لا يتمّ اعتباره عدواناً. مثلاً، اعتبر "أنصار الله" في اليمن ذلك عدواناً، فترتّب على ذلك قولها إنّ الآلاف من الشباب اليمني سيقاتل مع الجيش السوري للدفاع عن عروبة سوريا، في حال فتحت الأخيرة باب التطوع للقتال. يعتبر هذا التصريح موقفاً سياسياً ترتب عليه خطوات عند اعتبار ما يجري عدواناً تركياً. إنه موقف، وليس تحليلاً سياسياً.

كان د. رمضان شلح يُطالب دوماً السياسيين والدول بتعريف "إسرائيل": هل هي عدو أم صديق أم حليف؟ هذا هو السؤال الاستراتيجي، فلا يجوز أن نقول إنَّ "إسرائيل عدوّ"، ثم نتحالف معها، وننظم مناورات مشتركة، ونقيم علاقات اقتصادية معها.

إنَّ مفتاح العِلْم كلّه يكمن دائماً في الأسئلة: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟ ومَن؟ وهل؟ تماماً كما سأل نيوتن عندما سقطت التفاحة من الشجرة: لماذا سقطت التفاحة؟ بعدها، ترتب على هذا المفتاح قانون الجاذبية الأرضية. لذلك، السؤال هو: هل دخول تركيا لسوريا عدوان أم لا؟

سواء كانت سوريا تعجب البعض أو لا تعجبه، فهذا موضوع مختلف. أيضاً، إنّ إردوغان لا يُعتبر صلاح الدين الأيوبي أو خليفة للمسلمين. نعم، لديه مواقف سياسية لفظية كثيرة مع القضية الفلسطينية، وهذا مهم، لكن الأهم هو المواقف السياسية التي يتم ترجمتها على الأرض، مثل اعتبار الكيان الصهيوني كياناً معتدياً. وفي حال اعتباره كياناً معتدياً، حينها، لا يجوز أن يُجري مناورات وعلاقات اقتصادية معه، والمطلوب طرد سفارة الكيان المعتدي من بلاده.

لذلك، نحن الفلسطينيين، لا يجوز أن نترك سوريا الَّتي قدمت كلّ الدّعم للشعب الفلسطيني وآزرت مقاومته، من أجل بناء مستشفى هنا، أو محطة تحلية هناك، أو من أجل خطبة إردوغانية عصماء. إنّ سوريا أرض عربيّة، كما فلسطين؛ هي أرض عربية، وليست أرضاً تركية. والمطلوب أن يكون للفلسطيني معيار وطني لإصدار المواقف السياسية، والغزو التركي لسوريا سينتهي كما انتهى كلّ الغزاة عبر التاريخ.

إنَّ إصدار الموقف السياسي تكون حساباته ذات بعد وطني، أو ذات بعد حزبي، أو ذات بعد شخصي في بعض الأحيان. وعندما يتم اتخاذ الموقف السياسي تجاه قضية "ما" من زاوية المصلحة الوطنية، فإنَّ المعايير تختلف إذا كان الموقف نابعاً من مصلحة حزبية أو مصلحة شخصية.

بعض المواقف السياسية، للأسف، ذات بُعد حزبي، ولا تفكّر في المصلحة الوطنية الفلسطينية. لذلك، نجد هؤلاء يرجمون السوريين، وينافقون الأتراك، وسيكتشفون مستقبلاً أنهم سيكونون ضحية، وطريقهم مليئة بالمفخّخات، فلو كانت فلسطين هي المعيار الذي تنطلق منه مواقفهم السياسية، فإن سوريا قدَّمت لفلسطين أكثر مما قدّمته تركيا بمليون مرة، ونقول لهؤلاء إنَّ مجاملة تركيا ليست لها علاقة بالدّين، لأنهم يحمّلون الدّين أكثر مما يحتمل، فهل إردوغان هو خليفة المسلمين؟ أولئك حساباتهم حزبية فقط.

إنَّ الخيارات السياسية إما تنبع من منظور وطني، وإما من منظور حزبي، وإما من منظور شخصي، فماذا يعني الشَّخصي؟ إنه يعني طبقة نافذة لديها مصالحها الفئوية، وتُطلق مواقف سياسيّة منسجمة مع مصالحها الشّخصيّة.

إننا ننصح أولئك بأن يكون معيارهم الوطن، حتى لو أخطأوا في الموقف السياسيّ. قبل أيام، قال القيادي في الجبهة الشعبية ماهر الطاهر في مقابلة على قناة "الميادين": "لقد أخطأنا في الدخول إلى المجلس التشريعي، ونعترف بخطئنا في خيارنا السياسي، ونحن قمنا بمراجعات سياسية، ولن نكرّر هذا الخطأ".

لذلك، من يضع مصلحة الوطن أمام ناظريه، حتى لو أخطأ في خياره السياسيّ، يبقى ذلك اجتهاداً منه، والناس في النهاية ستغفر له اجتهاده، لكن إذا كان خياره السياسيّ نابعاً من منظور حزبي، فإنه لن يَلقى قبولاً من كل الشعب، ولو نجح، لأن تبعات نجاحه ستعود على الحزب نفسه، وربما يتصارع هذا الحزب بعد ذلك مع الشعب للدفاع عن مكتسباته التي حقَّقها جراء نجاحه في موقفه السياسي الحزبي. أيضاً، ستكون هناك قيود على الحزب عند تحقيقه أي مكتسبات حزبية، لأن العالم ليس جمعيات خيرية تصرف المال بلا قيود، بل إنه سيضع عليه 100 قيد وقيد.