من طرابلس إلی بیروت... بإنتظارك یا شیخ الاسلام!

كان حسين شيخ الإسلام قد عرف نظام الهيمنة منذ بداية شبابه عندما كان يدرس في كاليفورنيا. لذلك كان بارزًا في حركة الطلاب المسلمين المناهضين ضدّ الاستكبار والاستعمار، ومشاركته في اقتحام وكر التجسس في هذا الصدد قابلة للتحليل.

  • من طرابلس إلی بیروت... بإنتظارك یا شیخ الاسلام!
    كان لحسين شيخ الإسلام تأثير بارز على العلاقات بين إيران ودول المنطقة لفترة عقدين.

لا يمكنني أن أنشد..

لا أستطیع الكتابة..

وعاجزاً على البكاء...

ولا يمكنني التفكير في فراقه للحظةٍ حتى..

إنه عالَم من الحزن انهار على قلوبنا

بفقدك أيها الحبيب!

يا حسين شيخ الإسلام..! 

لا أعرف إلی متی علَيّ أن أكتب لأصدقائي الذين يرحلون مغمورين ومظلومين، وأرثيهم حزناً؟

أعرف أنّ هذه المرة، الأمر مختلف.. مختلف تماماً.. الرجل الذي أرغب في الكتابة عنه كان لا يشبهنا نحن أبناء الأرض.

نعم؛ حسين شيخ الإسلام أتی من عالم آخر..

من المعروف أنه يمكن التعرف على خصائص الأشخاص الأخلاقية في فترة السفر، لكنني عرفته قبل مرافقته في ذلك، وبالطبع ازدادت المعرفة في الرحلة الأولى أكثر من أي وقت مضى.

كانت أولى رحلاتنا إلى طرابلس شمال لبنان، لتشييع رئيس الوزراء اللبناني السابق الفقيد رشيد كرامي والذي كان ضحية الإرهاب.

آنذاك وفي أيار/مايو 1987، تمكنت من معرفة سجاياه الإنسانية والأخلاقية ودخل قلبي، وبعد ذلك في تشييع الشهيد السيد عباس الموسوي في بعلبك والنبي شيث في البقاع، في شباط/فبراير 1992، حيث شاهدت قمة نقاء روحه وسلامة نفسه..

ومثل هذه الأمثلة استمرت سنوات وسنوات.

لم أقصد كتابة المذكرات لأنه كان في الأساس خالق المذكرات، لقد كان يُثير إعجاب رفاقه ومخاطبيه ومن دون إرادتهم يُسجّل لهم ذكريات، ولهذا كان الجميع مفتونًا بأخلاقه الطيبة ونفسه النقية.

نظرة خاطفة على سجاياه الأخلاقية وطبيعته، ربما تُهدّئ من روعنا:

كان وجهه مبتسماً دائماً: لقد كان مشفقاً، ليس مع أسرته  ومع أقاربه ووالدته المرحومة التي كان يزورها في مرضها ثلاث مرات يوميًا ليناولها الأدوية بعناية وفي الوقت المحدد فحسب، بل كان يحمل هذه العاطفة والإشفاق للجميع.

لم يخرج أبداً عن طريق العدل والإنصاف: لقد كان ساحرًا ولطيفًا وبسيطاً، لا هوادة فيه، متواضعاً، مهذباً للغاية وبلا هوامش. لقد كان مجاهداً وصنديداً وذا روحٍ نقية..

كان لا يُحب الثناء والمديح من نفسه، وعندما كان يسمع ذلك، كان يضع يده علی كتفي المادح وبقوله المعتاد يردد، "لا تؤذني!" يتغلب علی الشخص ويمنعه من المديح وأحياناً يندم الشخص من ذلك المدح ويكتفي.. 

صدق حديثه وحسن سلوكه ونواياه الطيبة لا تخفی علی أي أحد. كان يحاول أن لا يُسيء لأي أحدٍ أبداً، و كان يُعتبر نفسه خادمًا للجميع. لم أسمع في أي وقت ومن أي شخص أن يشكو من حسين، كان يحظى باحترام كبير لدی الجميع، حتى من قبل خصومه السياسيين.كان مفتوناً جداً بالرسول صلی الله عليه و آله و أهل بيته (عليهم السلام)، كان معتقداً بالصلاة وبأنها عمود الدين وبالطبع في أول وقتها وفي الجماعة، كان لديه هاجس بالقيام بهذه الفريضة دائماً. كان يترك الاجتماعات المهمة والمناقشات الأكثر جدية بهدوء وبشكل مفاجئ ويسرع إلی لقاء ربه.

في السنوات الأخيرة، كان يُصادف كثيراً أن نلتقي ثلاث مرات في الأسبوع في الجلسات المشتركة؛ وكنّا نُبرمج وقتنا بأن نقطع طريق العودة معاً، لذلك راقبته عن كثب ورأيته في مواقيت الصلاة يبحث باهتمام فقط عن مسجد.

كان يعلم سائقه جيدًا بأنّ عليه أن يتوقف عند أقرب مسجد عند استماع الأذان.

وكان من المقدّر أيضاً أن يسقط يوم الثلاثاء الماضي في مصلى مجمع التقريب أثناء أداء صلاة العصر علی الأرض ولم يتمكن من إتمامها. لكن كان لديه هذا القلق حتى اللحظات الأخيرة من حياته، وحذر زميله مرارًا وتكرارًا: "سيد نوري! إذا حدث لي شيء، صلّي نيابة عنّي صلاة العصر، مؤكداً، إياك أن تنسی أنني لم أؤدّي الركعة الأخيرة من صلاة العصر".

نعم؛ أكثر من أن يری الدنيا، كان يری الآخرة من نافذة الصلاة وكان مشهداً للأسرار. 

كان حسين شيخ الإسلام قد عرف نظام الهيمنة منذ بداية شبابه عندما كان يدرس في كاليفورنيا. لذلك كان بارزًا في حركة الطلاب المسلمين المناهضين ضدّ الاستكبار والاستعمار، ومشاركته في اقتحام وكر التجسس في هذا الصدد قابلة للتحليل، وفي إشارة متكررة إلى نافذة مكتبه التي كانت تُفتح بوجه مبنى وكر التجسس، قد قال: إن الله قد قدّر لي أن أقف آخر أيام حياتي بوجه الشيطان.

شغلت القدس وفلسطين والمقاومة كل مساحة عقله وجغرافيا فكره وشعوره. بهذه الطريقة، وفي هذا المسار لا يُصالح ولا يُهادن مع أيّ أحد ولا يخاف من أيّ سلطة. 

رافقته في لقاء مع أعلى شخصية سياسية وتنفيذية في إحدی الدول العربية في المنطقة وفي قصره الحكومي؛ وعندما جری الحديث عن المقاومة، قام بكل وجوده صارخاً بالدفاع عنها بحيث ارتجف ذلك المسؤول من هذا الموقف؛ وأشهد الله علی ما أقول.

وحقيقةً، لقد لعب دوراً ناعماً لكن كبيراً في تكوين المقاومة وكان له تأثير بارز على العلاقات بين إيران ودول المنطقة لفترة عقدين.

- كان بعيداً عن التكتلات والتلاعبات السياسية الشائعة اليوم، كان "الحق" میزانه و "الثورة" معياره و "الشعب" خطه الأحمر.

وكان يثور وینتفض من أجل الحصول على حقوق المستضعفين. وصريحاً إلى أقصى الحدود في هذا المجال، وكان لا يُجامل أي شخصية وأي مسؤول وعلى أي مستوى كان، ويُبدي رأيه ليس بكلامه فحسب بل بكل كيانه.

كان الرجل الكبير الذي يُغربل السياسة فيُجني ثمارها، ويترك شرها لأهلها.

كان شيخاً على الأجيال المتتالية من دبلوماسيينا وكان مُرشداً في عصرنا هذا، والجميع مدينون له بالفضل ويفخرون بالتتلمذ على يده. مثل هذا الإجماع حول شخصية سياسية أمر نادر للغاية في عصرنا.

لقد كان قوياً لدرجة أنه لا يمكن تغييره أو التحكم به من قبل أي منصب أو أي شيء؛ لا وظائف دبلوماسية في الداخل والخارج، ولا تمثيل برلماني أو أي شيء آخر.

كان عنوان "الشيخ" عليه يطغی علی أي شيء آخر، وكان هو نفسه، لكن استشهاد الحاج قاسم قصم ظهره؛ لم يهدء ولم يستطع البقاء بعد ذلك، كان يحاول إثبات صلابته، لكنه لم يتمكن من إخفاء دموعه في المقابلات واللقاءات المباشرة مع القنوات والفضائيات.

كان يقدم تحاليله في قمة الإحساس والعواطف ولكن في نفس الوقت بعقلانية وبشكل منطقي وبعمق وبقوة، وكان يجذب مستمعيه بنظرته الثاقبة.

بعد مرور 4 عقود على الثورة الإسلامية، كان لا يزال يتكلم بخطاب عام 1979: كان يلهج باستمرار هذه العبارة "لا ننسی يا أولاد". ومن المثير للاهتمام، أن الأولاد الذين يخاطبهم كانوا دائمًا مسؤولين رفيعي المستوى ورجال دين بارزين، كانوا غالبًا في الأربعينيات والخمسينيات من العمر!!. 

في مراسلاته الإدارية كانت كلمة "الأخ" لا تزال تستخدم. لقد كان دبلوماسياً ثورياً وبكل ما في الكلمة من معنی.

بينما كان أستاذاً في الدبلوماسية، كان أستاذاً في أخذ الإستشارات أيضاً، وكان يستشير الجميع بشكل غريب ولا ينظر إلی موقعهم أو عمرهم.

كانت استشاراته غير تصنّعية أو تمثيلية، بل كان يبحث حقاً عن التعليم والتعلم، ودفاتره الصغيرة اليدوية تشهد على هذا الادعاء.

ذات يوم سألته يا شيخ! ماذا تفعل بهذه الدفاتر؟ " أجاب، "المراجعة، وتبيين نصوصها واستخدامها".

كان لقائي الأخير معه؛ بدعوة من عميد جامعة آزاد وبمرافقة زملائي أعضاء جمعية آزاد في لبنان، في طهران. كان لدينا حلقات عمل مكثفة. وقبل مغادرتي إلى بيروت، طلب المساعدة مني والبقاء بضعة أيام ومساعدته لعقد مؤتمر الوحدة الإسلامية، لكن اعتذرت ورفضت لأسباب مختلفة ولعديد من الإنشغالات. توسلت إليه وطلبت منه بعدم توسّط أي شخص لمطالبتي لمواصلة مهمتي في طهران، كان صامتًا وفهمت من صمته، الموافقة علی ذلك.

لكن للمرة الأولى، رأيت منه وعداً مختلفاً وسمعت منه أن منظمة الثقافة والعلاقات الإسلامية أصدرت الحكم علی بقائي لمساعدته، تذمّرت؛ فتبسّم ومسح بيده علی رأسي كالعادة. قضينا أسبوعاً مزدحماً بالأشغال، بعد ذلك التاريخ انتظرته لإفتتاح العمل الرسمي للجمعية في بيروت. قام مرّتين بتأجيل سفره إلینا بسبب الجدول الزمني لبرامجه المزدحمة. لقد حدّدنا التاريخ مع زملائي في الجمعية وكنّا بانتظاره.

خلال مكالمتنا الهاتفية الأخيرة، وعدَنا وتمّ التمهيد لذلك.

ما زلنا ننتظرك، شيخ الإسلام..!