التحدّيات الناعِمة لبيئة المقاومة في لبنان

في هذه المقالة الموجَزة، محاولة لفَهْمِ تموضُعات جمهور حزب الله خلال تعامُله مع وسائِط التواصُل الاجتماعي، وما إذا كان لحزب الله رِهانات في السيطرة على جمهوره وتحديد ماهيَّة الثقافة التي يجب أن تصل إليه.

  • التحدّيات الناعِمة لبيئة المقاومة في لبنان
    ما صنعته تقنيات التواصُل في بيئات العالم، ومنها بيئة المقاومة، أنّها مكَّنت كلّ فرد من أن ييني ثقافته بنفسه (أ.ف.ب)

الأجواء الافتراضيّة ساحة حرب حقيقيّة" (مُرشِد الجمهورية الإسلاميّة). تُملي تقنيات التواصُل اختيارات وتفاعُلات دراماتيكيّة لا حدّ لسيولتها وجاذبيّتها. على مدار الساعة، تقترح هذه التقنيات سلوكياتٍ وأفكاراً وفيرة ومجّانية تُغيِّر مقاييس البشر للحياة، فتتالى الأسئلة حول ما إذا بات العالم خارج نِطاق السيطرة، وما إذا كان الأمل معدوماً من إمكانية ضَبْط هذه الفوضى العارِمة، وإعادة النظام والاستقرار إلى العلاقات والطمأنينة إلى النفوس.

نادى مُفكِّرون كِبار، أمام هذه الاختلاطات والتعقيدات العجيبة، بوضع معايير ناظِمة تحت مُسمّى أخلاقيّات الإعلام والتواصُل أو "الأخلاق التطبيقية"، وضرورة التفكّر بهذه الوسائِط التي "اغتصبت العامة"، عبر التهذيب والتوجيه والقوانين التي يُفترَض أن تجعل استعمالها أكثر فائدةً وأقل ضَرَراً.

في هذه المقالة الموجَزَة، محاولة مُتواضِعة لفَهْمِ تموضُعات جمهور حزب الله خلال تعامُله مع هذه الوسائط، وما إذا كان لحزب الله رٍهانات في السيطرة على جمهوره وتحديد ماهيّة الثقافة التي يجب أن تصل إليه، أو أنه يتدخَّل فقط لرؤية القضايا بطريقةٍ أفضل، ومواجهة المشاكل والتحديات الماثِلة أمام المُنضوين إليه ومُناصريه بتقييمٍ واعٍ؟.

تشهد بيئة المقاومة، إذاً، تحوّلات ثقافية واجتماعية لا تترك مجالاً للشك في مدى ارتباطها بنتائج العَوْلَمة ومُعطياتها السيّالة وارتفاع نسبة التفاعُل والتنافُس والصِراع بين أطرافها الكثيرين، ولا سيما في حقل الميديا ووسائل التواصُل الاجتماعي، التي تركت أثراً في الأفكار والتصوّرات والقِيَم والأخلاق.

بيئة المقاومة، مثلها مثل أية بيئة أخرى، اختبرت تأثيرات العَوْلَمة، السلبية منها والإيجابية؛ تلك التي تحمل شُحنة من التدخّل والعدوانيّة على الثقافات والتقاليد والعادات المحليّة، والأخرى التي تحمل شُحنة من الرسوليّة والتواصُليّة والانفتاح على سياقات جديدة من المعرفة والعلاقات الإنسانية. 

كلامنا هنا لا يتّصل بما منحته مُنتجات العَوْلَمة من توسيعٍ في أفق الثقافة أو ما يتعلَّق منها بتطوير الارتباطات الوشائجيّة، بل بتجاوز وتهشيم القِيَم الدينية أو الشرقية المحلية، بما تختزنه من فضائل ومكارِم وطريقة عَيْش وطيبة وألفة وتعاون وتفهّم وحميّة ومشاعِر مُستقرِّة نسبياً، والتحوّل عنها إلى أفكارٍ مُتَزَلْزِلة وقِيَم مُتبدِّلة ومشاعر مُتقلّبة وتشعّبات لا حدّ لها في الآراء.

ما صنعته تقنيات التواصُل في بيئات العالم، ومنها بيئة المقاومة، أنّها مكَّنت كلّ فرد من أن ييني ثقافته بنفسه، ومنحته حرية أن يُحدِّد اختياراته، ويُعبِّر عن مواقفه، ويُصدِر أحكامه، بعيداً عن ذلك الخوف التقليدي النوعي من مجتمعه وحزبه وعائلته. 

باتت مواقع التواصُل الاجتماعي على وجه الخصوص موطِناً لطاقة وجُرأة واستقلالية وانفصالية مُتزايدة. هذا الدَفْق الهائِل من الكلام على صفحاتها، والذي لا تشمله قواعد الضَبْط والتوجيه الصارِم، يُفرِّخ تعقيدات وتناقُضات تُهدِّد الإطار الثقافي للهويّة الشخصية والعامة بالتشوّه والتفسّخ، ويبسط الخصومات بين الأفراد والمجموعات، حتى تلك التي تنتمي إلى إيديولوجيا وعقيدة واحدة.

قبل التكنولوجيا الحديثة التي بات كلّ فرد ينتمي إلى هذه البيئة يستعملها، ما كان أحد يشعر بتضخّم الأنا كحالٍ عامة، ولا الحِدَّة في المواقف، والتشبّث بالرأي، والتبرُّم مما يكتبه الآخر، باعتباره تافِهاً وكريهاً وسطحيّاً أو عميقاً نُخبوياً غرضه لَفْت النظر والتشوّف الفكري، أو تلك المُقارَبات المختلفة لقضايا دينية وسياسية، والتي تحفر في النيّات والخلفيّات والميول والغايات المُستَتِرة لأصحابها، وتستجلِب أحكاماً وتدابير مختلفة.

إنّ تمتّع الفرد بفرصة الحصول على حساب عبر تطبيق من التطبيقات المعروفة بات امتيازاً دعائياً وإعلامياً له جاذبيّته النفسية والاجتماعية. ومن جانبٍ آخر، فإنّ هذا الامتياز أعاد توزيع الموارِد، بحيث يتساوى الغني والفقير في حق التعبير وتسويق الوَعي والدعوة والتبشير وجَمْع الأنصار والمُعجَبين، تماماً كما صوَّر الأميركي صموئيل كولت الحال التي عاشها لحظة اختراعه المُسدَّس، إذ هتفَ قائلاً: "الآن يتساوى القوي والجبان!".

من الواضح أنّ شبكات التواصُل الإلكترونية أحدثت تغيّراً في السلوك المدني والديني داخل هذه البيئة، وتقلّباً في الشعور العام والخاص، ولكن من دون أن يؤدِّي ذلك إلى انقطاعاتٍ كبيرةٍ في "وعي النوع"، إذ سُرعان ما يُبادِر الأمين العام لحزب الله إلى تصويب الرؤية وتثبيت الهوية الثقافية والدينية والاجتماعية، وكثيراً ما تربط خطبه في عاشوراء وفي المجالس الداخلية الخاصة بين القضايا السياسية المصيرية والنظام السلوكي للأفراد.

وعلى الرغم من ذلك، إنّ المُشكلات والنِزاعات والتناقُضات أكبر من أن تُحصى وتُضبَط، ما يجعلها عَسيرة التحكّم والسيطرة من قِبَل الأمين العام نفسه أو أيّ جهاز في الحزب، مهما بلغت قُدرَته.

وما يُشعِر بعدم الاطمئنان أنّ هذه الشبكات يستحيل تحوّلها إلى أراضٍ آمِنة، لأنها موصولة بأخلاق الأفراد وأهوائهم وميولهم وطبائعهم ومصالحهم المُضطَرِبة، وهي مُتحرِّكة ومُتغيِّرة باستمرار، إضافةً إلى التحوّلات والمؤثّرات والتطلّعات التي تنطوي عليها البنية الاجتماعية للحزب، التي تولّد أسئلة لا توفّر قيادة الحزب كلّ أجوبتها، لاعتباراتٍ لا يجري في العادة الإفصاح عنها عَلناً.

إنّ الضّغوط التي يتعرَّض لها أبناء هذه البيئة بسياقاتها المُتشعّبة زادت من نسبة التساؤل والنقد والاعتراض ووتيرتها، فبرزت تبايُنات داخلية تعكس بشكلٍ وآخر التغيّر في الشروط الاجتماعية والثقافية والأخلاقية، فقلّت التحفّظات، وحلّت محلّها مواقف الإدانة والاتهام التي يجري التعبير عنها بشيء من المُبالَغة والقَسْوة، وبنحوٍ ما تكون مُتهوِّرة ومُفتَقِرة إلى الرقابة الداخلية الكافية. 

إنّ بعض الأفراد، بسبب حاجتهم إلى إشباع طموحهم واستقلاليّتهم أو تفاعُلهم مع عالم الأفكار والأشياء من الزاوية التي ينظرون منها، لا يتبقّى لهم أحياناً إلا مجال صغير للشعور بالواجب والمسؤولية والرَصانة في تصرّفاتهم، وهؤلاء الأفراد بمقدورهم وحدهم صُنْع المعارك وإثارة التوتّرات، فتتحوَّل منصَّات التواصُل إلى أراضٍ للهجوم وسَحْق الآخر، أو أراضٍ حدودية تكثُر فيها المُناوشات، وتؤكِّد مساحات التعازل ونَقْص الثقة وسوء الظنّ.

ويمكن الاستنتاج أنّ التوافُق الراسِخ حول قضية المقاومة كقضيةٍ جامعةٍ لا يحمل بالضرورة توافُقات كاملة حول قضايا ثقافية واجتماعية ودينية، لكنَّ المُفارَقة أنّ الاختلاف حولها قد لا يكون منشأه نظرية علمية ومبدأً أخلاقياً، بل الاستكبار عن الحق وكراهته والغَلَبَة والإفحام وطلب الجاه والمُباهاة، تماماً كما ورد في كتاب "منية المريد" الشهير حول آفات المُناظَرة.

ولا شكَّ في أنّ الإفراط في التفاعُل في هذه الشبكات ولَّد حساسية مُرْهَفة تجاه الأصدقاء الافتراضيين، فحين يكتب أحد الناشطين تغريدةً أو منشوراً أو يضع مُلصَقاً، يحاول بذلك لَفْت انتباه هؤلاء الأصدقاء أو الاستحواذ على إعجابهم وكَسْب إطرائهم بالتعليق بجملةٍ أو صورةٍ مناسِبة.

في المقابل، ينبري البعض إلى التباري من باب توكيد الذات، وهذا الأمر يفترض مواجهةً وحضوراً وإنكاراً لكلام الخَصْم، "وردّ الحقّ على قائله بعد ظهوره له"، والطّعن به، ذلك أنّ المنطق الداخلي لهذا التواجُد على وسائل التواصُل يُعمِّق سِمات التعالي والتكبّر والتفوّق، وأيّ تلكؤ وصمت للفاعلين على صفحاتها يمكن أن يُعتَبر انهزاماً وتراجُعاً ونقصاً في المكانة الفكرية وقوَّة الشخصية، ما يعني ضمناً أنّ التفاعُل عند هذه الفئة لا يحدث بناءً على استجابةٍ موضوعيّةٍ للأفكار المطروحة أو بناءً على شروطٍ واقعيةٍ في الحوار والنقاش، بل بما هو سلاح هجوم للنَيْل من موقع الآخر المُعترِض.

ما يمكن رَصْده من تحوّلات بالقياس على ما سبق من تأثير فضاءات الميديا والإعلام داخل بيئة الحزب هو:

1-بروز اتجاهات لفئاتٍ تشترك في تبنّي اعتقادات ومُمارسات دينية وفق فَهْمِها الخاص، بعيداً عن الأطر المرجعية التقليدية. وإذا كان هذا الأمر ليس جديداً داخل المجتمعات الشيعية في العالم، المُتفاعِلة مع سياقات الاجتهاد والبحث العلمي، إلا أنّه اليوم بات أكثر تفلّتاً من قيوده وشروطه الأخلاقية والعلمية، وأكثر علانيّةً وحركةً وحريةً في التعبير عن نفسه.

2-ارتفاع نسبة "الخيانات الافتراضية" بسبب التبايُنات حول قضايا وموضوعات سياسيّة ودينيّة واجتماعيّة، فتتّجه العلاقات (رقمياً) نحو المزيد من الهَشاشة، لتنعكس لاحقاً على العلاقات والصداقات والشراكات الحقيقية الواقعية، فتُهدِّد بنيانها وأساساتها بسبب ضياع خطوطها الفاصِلة بين ما هو افتراضي وما هو واقعي!

3-ارتفاع نسبة الظنون والشكوك والمَخاوِف بين المُتفاعِلين، وتفاقُم حالات العَجْز عن فَهْمِ الآخر وتقدير نيّاته. ومع هذه الوضعيات النفسية والفكرية، يكاد أمر التعبير عن الخلافات يكون عادياً، وأمر التفاهُم والتفهّم غير ضروري، فالناشِط بإمكانه تعويض خسارة صديق بآخرين سريعاً، من دون الشّعور بالانزعاج وتأنيب الضّمير.

4-الإمكانية المُتاحة للانفتاح على كلِّ ثقافةٍ أدَّت إلى حَفْرِ ثغرات داخل جسم البيئة انعكست في طريقة العَيْش والمأكل والمظهر، وخصوصاً عند النساء. 

كما أنّ شعور البعض بالضِيق الثقافي وتطلّعه إلى حياةٍ اجتماعيةٍ مُخفّفة قليلاً من القيود الفُقهية، دفعه إلى مُقارَبة موضوعات دينية حَرِجة وحسّاسة، كالحِجاب والموسيقى والزينة والاختلاط بين الجنسين، وقضايا أخرى مُرتبطة بنوعيّة العمل والتجارات، بالقفز على الشروط الشرعية والعرفية المعهودة، أو من خلال الفَهْم الخاص الذي يبحث عن تسوياتٍ وحلولٍ تُساير ثقافات مجتمعات أخرى وعاداتها، وتتماهى مع مركزية الذات في تعيين ما هو حَسَن وقبيح، وما هو مقبول ومرفوض، الأمر الذي جعل الفجوة الثقافية داخل هذه البيئة مُتنامية وسائلة باستمرار.

5-تفاقُم المُعضِلات الأخلاقية التي تُسبِّبها هذه الأدوات، إذ تؤدّي إلى خلافاتٍ قاسيةٍ بين الأزواج يتولَّد منها شعور مُمِضّ بعدم الأمان، فما كان مُستحيلاً وصعباً في الماضي صار مُمكِناً وسهلاً الآن، فكلّ الكون بات في مُتناوَل اليد، وبإمكان أحد الأزواج أو كليهما الاطّلاع على أيِّ مجهول وممنوع، والتواصُل مع أيّ إنسانٍ بلا حدود، والتفاعُل مع أفكار وقِيَم أشخاص آخرين ينتمون إلى بيئاتٍ بعيدةٍ كل البُعد عن بيئة المقاومة.

بالإجمال، إنّ شبكة المؤثّرات التي تتعرَّض لها بيئة المقاومة، تتطلَّب، بحسب مسؤولين في الحزب، بصيرة نافِذة ويقظة عالية، ليس بسبب التحدّيات الراهِنة، بما تحمله من خطر تهشيم القِيَم التي تختزنها هذه البيئة فحسب، ولكن بسبب الرِهانات القادِمة (تلك الرِهانات التي لم تُولَد ولم تحدث بعد). 

بلغة المخاطِر والعواقِب، لا بدّ من أسوار حماية تحول دون الإضرار الجسيم بإمكانيّات هذه البيئة ومُكتسباتها القِيَمية وفُرَصها الاجتماعية وأحلامها الإنسانية. ربما تشير عبارة الفنان الإسباني بابلو بيكاسو: "كلّ ما تستطيع أن تتخيَّله حقيقي"، بأمانة إلى هذا المعنى وهذا الخطر !

إنّ العلاقة بين الإعلام والحياة الاجتماعية والسياسية تحفل بسِجالاتٍ حارَّة، ليس في بيئة مُحدَّدة كبيئة المقاومة، وإنما في بيئات العالم كلّه، ولكن عندما تتلاعَب الميديا بالعقول، وتصنع الأكاذيب، وتحرِّك الأزمات، ويصبح هذا الحقل ميداناً للإمبريالية في الصورة والكلمة والصوت، وهيمنةً في عالم التصوّرات، فهذا يستلزم من حزب الله مُقارَبة لإعادة تقييم ثقافة الجمهور ووعيه، وامتلاك السلاح المناسب لمواجهة أمراض المعرفة والتكنولوجيا، وإنْ في دائرته الضيِّقة!