ما جناه إردوغان وأنظمة الخليج.. انقلاب المشهد

ما الّذي جناه الخليجيون من الانخراط في محاولة إخراج سوريا من المُعادلة العربية، سوى أنهم باتوا يتصارعون في ما بينهم، ويحاصرون بعضهم البعض، ويرمون بعضهم البعض بتهمة الإرهاب الذي اشتركوا جميعاً في صناعته بعناية.

  • ما جناه إردوغان وأنظمة الخليج.. انقلاب المشهد
    يخسر إردوغان بالتقسيط صفة الزعيم الإسلامي الذي بايعه الإسلاميون "الإخوانيون" في العالم العربي

عندما اختارت دول الخليج الانخراط في مشروع تدمير الدولة السورية، واستخدمت كلّ ثقلها الماليّ والإعلاميّ من أجل تحقيق هذا الهدف، لم يكن مُتاحاً تلمّس مصلحتها الحقيقيّة والاستراتيجيّة من هذه الخطوة، سوى أنها خدمة للمصالح الأميركيّة الصهيونيّة، ولم يكن من السَّهل أيضاً فَهْم أن تشترك هذه الدول جنباً إلى جنب مع غريمها الإقليمي التركي في المساعي والأهداف ذاتها.

في الحقيقة، إنَّ دول الخليج لا تتجاوز حساباتها في العادة منطق المُناكفات الشخصيَّة التي يحرِّكها الغباء السياسي الأصيل، فهذه الدول لا تُخفي حقدها، ليس على سوريا فحسب، بل على كلّ محور المقاومة الذي ترى أنه يُزايد على قوميّتها، ويضعها دائماً في موقع الخانِع والمُتواطئ الذي يبيع القضايا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وتغفل عن أنَّ تمكين التركي من سوريا يعني تمكينه من كل المشرق العربي، إضافةً إلى تونس والمغرب حيث "للإخوان المسلمين" نفوذ وتمثيل، وهو السيناريو الذي يُهدِّد حُكم هذه الدول بالذات أكثر من غيرها.

خلال 8 سنوات من الأزمة، سقطت أرواح سوريّة بريئة، وتضرَّرت البنية التحتية كثيراً بشكلٍ يتوافق مع درجة الحقد الذي يُكنّه الإرهابيون ومُشغّلوهم للدولة السورية، ولكنَّ الجيش السوري، في المقابل، يُحقّق الانتصارات يومياً على الرغم من الآلام والجِراح، بينما يخسر داعمو الحرب في سوريا الواحد تلو الآخر، ويتساقطون يوماً بعد يوم مثل أحجار الدومينو.

فما الّذي جناه الخليجيون من الانخراط في محاولة إخراج سوريا من المُعادلة العربية، سوى أنهم باتوا يتصارعون في ما بينهم، ويحاصرون بعضهم البعض، ويرمون بعضهم البعض بتهمة الإرهاب الذي اشتركوا جميعاً في صناعته بعناية، ودفعوا به إلى سوريا لينمو ويترعرع، بينما تُطارِد الفضائح الهوليوودية مسؤوليهم كلّ يوم، فلا تكاد أن تنتهي فضيحة حتى تظهر أخرى، وأموالهم إما تستنزف في حروب عبثيّة وإما يسطو عليها ترامب في لياليهم المُقْمِرَة!؟

الغريب أنَّ الخليجيين أنفسهم يسخرون اليوم من الرئيس التركيّ حين يكتفي بإطلاق التهديدات من دون القُدرة على الردّ الفعليّ على تقدَّم الجيش السوري وتحقيقه الانتصارات المُتوالية في إدلب. 

هذه الدول تتهكَّم على رئيس سبق أن دعمته من دون حدود، وتختبئ وراء نجاحات سوريا وصمودها، والتي سبق أن أخرجتها - هي نفسها - من الجامعة العربية.

 لعنة الدم السوري فضحت هؤلاء، وأخرجت غسيلهم إلى العَلَن، ورفعت النِقاب عن الكثير من المُمارسات والسلوكيات التي ما كان للمواطن العربي البسيط أن يُصدِّقها لولا هذه الأحداث، وفقدت بعض هذه الأنظمة الاحترام الذي اكتسبته خلال عقود، من خلال مكانتها الدينية والمعنوية في العالمين العربي والإسلامي، فأصبح الناس يرون عورتها من دون غطاء أو حواجز.

ومن بين أصوات نحيب العرب المخدوعين كعادتهم، يرتفع صوت التركي هذه الأيام، في محاولةٍ يائسة لتأخير القَدَر المحتوم بتحرير كلّ شبرٍ سوري من أيدي المُرتَزقة الإرهابيين. والحقيقة أنَّ هذا الصراخ لن يزيد سوى توريط التركي المُصرّ على نفث سمِّه وشَرِّه من دون هوادة على كلّ ما هو عربي من مشرقه إلى مغربه.

تورَّط الأتراك في الدم السوري منذ بداية الأزمة، وتمادوا بوقاحةٍ قلَّ نظيرها في التبجّح وإعلان العداء للدولة السورية، بل واعتبار الأزمة فيها أمراً داخلياً، وهو سلوك لا مُبرّر سياسيّاً أو استراتيجيّاً له - وخصوصاً بعد نجاح الجيش السوري في التصدّي للهجمة التي استهدفته - سوى تفسير أنها لعنة الدم السوري التي التفّت حول عُنق إردوغان، وجعلته لا يرى سوى ما يُريد أن يراه عبر ثقب أفكاره الضيّقة التي يُغطيها هي الأخرى عمى طموحات الهلال الإخواني.

يخسر إردوغان في كل مكان، في سوريا وليبيا والعراق والسودان والصومال، كما يخسر بالتقسيط صفة الزعيم الإسلامي الذي بايعه الإسلاميون "الإخوانيون" في العالم العربي. ولم تعد التجربة التركية بقيادة إردوغان هي الأنموذج الذي يُعاير به الإخوان المسلمون أنظمة بلدانهم. 

وقد دبّ العداء بين إردوغان وقيادات وازِنة في حزب العدالة والتنمية، وافتكّت منه إيران ورقة القضية الفلسطينية، وأعادت حماس إلى حضن محور المقاومة، بعد أن كان يُتاجر بها كلَّما أراد أن يبتزّ أميركا أو الكيان الصهيونيّ.

كلّ يوم يمرّ على إردوغان وهو مُصرّ على عداء الدولة السورية، يقرِّبه إلى حَتْفِه المحتوم، فمَن كان يُصدِّق أن إردوغان الذي تحوَّل في سنوات حُكمه الأولى إلى أيقونة النجاح الاقتصادي والأنموذج الديموقراطي الذي يُحتذى به في الدول التي سيطر فيها الإخوان المسلمون على الحُكم، سيدفعه غروره إلى الانقلاب على نظرية "صفر مشاكل مع الجيران"، إلى صفر علاقات مع الجيران، ويصبح أعداء تركيا أكثر بكثير من أصدقائها!؟

إنَّ صفة الربيع العربي التي تحطَّمت على أسوار دمشق بخَّرت معها أحلام إردوغان في تحقيق أهدافه التوسّعية في المنطقة، وسوريا التي كانت بوابة العثمانيين الجُدُد لدخول العالم العربي ستعيدهم إلى حجمهم الحقيقيّ، ولعنة الدم السوري ستنسج حبل الانتحار السياسي، ليس لشخص إردوغان فحسب، بل لمشروع حزب العدالة والتنمية كله أيضاً، وستسقط معه كل الأحلام بإقامة إمبراطورية إخوانية على أنقاض الدولة الوطنية؛ إمبراطورية يقودها إردوغان الذي لا زال غروره يدفعه إلى الاعتقاد بأنَّ اللعبة لم تنتهِ بعد.

لا يريد إردوغان أن يُصدِّق أنَّه خسر بالضربة القاضية. لذلك، يستميت في مُعاداة الدولة السورية، ولا يسمع نصائح أصدقائه الروس بضرورة إعادة العلاقات مع دمشق، لأنه يؤمن بأن خسارة مشروعه التدميري في سوريا تعني فشل كل أحلامه التوسّعية في العالم العربي.

حاول الخليجيون أن يختصروا طريق الفشل والخسارة بانسحابهم من هذا المشروع مع أولى بوادِر اقتناعهم بأن سوريا لن تسقط، بينما لا يزال إردوغان يحصد الخيبة تلو الأخرى.

ولم يستفد من هذا المشروع سوى الكيان الصهيوني، الذي دفع تركيا، ومعها دول الخليج، إلى التكفّل بهذه المهمة القَذِرة بدلاً منه، في مقابل أن يُعمَّم النموذج التركي في العالم العربي، على اعتبار أنه ديموقراطي من حيث الشكل، ويخدم باحترافيّة مصالح الأميركي الصهيوني من حيث المضمون، ولكن لا الأنموذج التركي تم تعميمه، ولا تركيا بقيت مُتصالِحة ومُتعاوِنة مع جيرانها، كما كانت قبل الأزمة السورية. 

إنها لعنة الدم السوري التي ستطاردكم أينما ذهبتم أيها القَتَلَة!