أوتوستراد دمشق – حلب يروي 9 سنوات من الحرب
كيف يمكن تخيل تلك المسافات بعد هذه الحرب بكل تفاصيلها وأوجاعها. ماذا حلّ بقرى وبلدات غافية على طرفي الأوتوستراد. تقتحم تلك الأسئلة المخيّلة ونحن نمضي إلى حلب بعد ساعات فقط من إعلان الجيش السوري السيطرة على طريق دمشق – حلب بالكامل.
على امتداد مسافة تزيد على مئة كيلومتر بين شمال حماه ومدخل حلب، معالم كثيرة توثّق بعض ما جرى طيلة تسع سنوات من الحرب. أبعد نقطة كان يمكن الوصول اليها قبل الـ28 من كانون الثاني الماضي/ يناير الماضي هي خان شيخون جنوبي إدلب، حتى تلك المدينة كانت تعد منطقة عسكرية مع تقدّم المعارك منها باتجاه معرّة النعمان وأريافها، أبعد من ذلك سيطر المسلحون بمختلف انتماءاتهم على الأوتوستراد ومحيطيه الشرقي والغربي حتى مدخل حلب باتجاه الجمعيات ومركز البحوث العلمية غرب الطريق.
كانت تلك المسافة قصيرة كما كنا نراها في أسفارنا قبل الحرب إلى حلب، كطلبة وعسكريين وزوار إلى الشهباء. انسياب الطريق والغطاء الأخضر وملايين أشجار الزيتون بين سهول وقرى وادعة على طرفي الطريق تمنح جميعها الزائر فسحة للتأمل والاسترخاء..
هذه المشاهد كلّها تحوّلت إلى ذكرى طيلة تسع سنوات. كيف يمكن تخيل تلك المسافات بعد هذه الحرب بكل تفاصيلها وأوجاعها. ماذا حلّ بقرى وبلدات غافية على طرفي الأوتوستراد. تقتحم تلك الأسئلة المخيّلة ونحن نمضي إلى حلب بعد ساعات فقط من إعلان الجيش السوري السيطرة على طريق دمشق – حلب بالكامل.
هل بات الطريق سالكاً؟ لا جواب واضحاً لدى أحد حتى فجر السبت الـ15 من شباط/ فبراير. كل ما هنالك أن الجيش السوري سيطر على الطريق، لكنّ السيطرة لا تعني تأمينه وإمكانية السفر الآمن عليه، لم يصدر أيّ بيان أو إعلان رسمي.
لا بدّ من التجربة إذاً، وأيّ خطر ستخبرنا به الحواجز العسكرية المتوزّعة على طول الطريق. المسافة بين دمشق ومعرّة النعمان جنوبي إدلب كانت يسيرة. بدت المدينة خاوية من كل ملامح الحياة. آثار المعارك جلية على أبنية عشوائية توزّعت على طرفي الأوتوستراد... أمطار خفيفة وأجواء ضبابية تصّعب المهمة، وحواجز متباعدة ساعدتنا على إكمال الطريق...
لا يعرف كثير من الجنود أكثر من مدى الحاجز التالي. جوابهم "اسالوا عندما تصلون إلى الحاجز التالي". أخذنا بهذه النصيحة حتى تحويلة وسط الطريق في بلدة حيش جنوبي معرة النعمان. قال لنا جندي إن الطريق مقطوع عند النقطة التركية، ولا بد من الانعطاف عدة كيلومترات عنها غرباً والعودة إلى الأوتوستراد.
كان العلم التركي واضحاً على الجانب الذاهب والآخر بالإياب... خمس سيارات مغلقة كانت تسير أمامنا أعطت بعض الطمأنينة. تبعناها بحذر نحو ربع ساعة في طريق ترابي موحل بين أشجار زيتون وبيوت قروية بسيطة قبل الولوج إلى الأوتوستراد مجدّداً... اشتداد هطل المطر والحفر المنتشرة في الطريق الموحل فرضا علينا إبطاء السرعة. غيّرت السنوات التسع اللافتات والشعارات وحتى الإعلانات الطرقية الموزّعة على طول الأوتوستراد.
تغييرات كثيرة بدّلت في ملامح الأمكنة، شعارات جبهة النصرة واضحة بلونها الأسود والكتابة عليها بلون أبيض. بعض الشعارات قد تكون لفصائل إسلامية أخرى: "الغناء حرام" و"الهدنة فتنة" و"الحجاب عبادة وليس عادة"، و"الاختلاط حرام" و"العلمانية كفر"، و"الديمقراطية هبل العصر" و"الديمقراطية دين الغرب"... ومعظمها موقّعة باسم إخوانكم المجاهدين... تكرّرت تلك العبارات على طول الطريق باتجاه حلب مع شعارين ضخمين لجبهة النصرة، وُضع أحدهما بدلاً من لافتة كبيرة ترحّب بالآتين إلى حلب قرب بلدة الزربة. بتنا داخل الحدود الإدارية لمحافظة حلب إذاً.
أصوات قصف يتردّد صداها بوضوح، لكنه قصف من مكان قريب باتجاه عمق الريف الجنوبي الغربي لحلب... نمضي عبر حواجز جديدة، لم يوقفنا أحد سوى للتعريف عن أنفسنا... فجأة انتبهت إلى أننا السيارة المدنية الوحيدة التي تسير على الطريق وقد بدا موحشاً، مرّت بنا سيارات عسكرية معدودة انعطفت على مفارق موازية باتجاه جبهات ومواقع متقدمة. في البرقوم والزربة وكفر جوم وأبو شيلم وخان العسل وكلها تتبع لريف حلب.
مرّت هذه القرى من بعيد كلمحات إلى أن وصلنا إلى لافتة قرب مفرق كفرناها، وكانت عنواناً في الأخبار قبل أيام مع وصول الجيش السوري إليها، أصوات القصف بدت أكثر قرباً مع سُحب دخان تظهر في الأفق الغربي، وروائح بارود تملأ المكان... تمضي عربات مدرعة على الأسفلت وعلى طرق ترابية وراء أشجار السرو المعمّرة قرب الأوتوستراد مسرعة باتجاه الغرب... بدا الدمار أكثر في ضاحية الأسد والراشدين... متاريس وأكوام من التراب غطت الجهتين الجنوبية والغربية من أسوار "أكاديمية الأسد للهندسة العسكرية"، يظهر إلى جوارها جنود مكلّفون الحراسة.
وصلنا الى أطراف حلب... نمرّ بعسكريّين كبيرين في العمر وقفا إلى جانب نار أشعلاها من جذوع أشجار يابسة للتدفئة في طقس شديد البرودة... يدقّق الرجلان في حركة العبور باتجاه مدينة حلب شمالاً، وباتجاه خان العسل وكفرناها غرباً... يخبراننا بثقة أن المعارك باتت بعيدة وتزيد على 15 كيلومتراً غرباً عن الأوتوستراد... كان إعلاناً واضحاً أنّ الطريق بات آمناً بالكامل، لنبدأ برسائل مباشرة من خلال تجربتنا عنوانها الأوتوستراد الدولي إلى حلب آمن بالكامل.