فلسطينيو الـ48.. حدود التأثير ورحاب العزيمة
صانِع القرار في "إسرائيل"، يؤطّر سياساته بُغية إخضاع المجتمع العربي بالوسائل كافة، لكن هذه السياسات لم تؤثّر على الكثيرين من العرب الفلسطينيين.
بين مطرقة الانتماء والثقافة، وسندان الواقع الإسرائيلي، ثمة الكثير من الهواجِس التي تستحوذ على اهتمام شرائح من المجتمع الفلسطيني داخل الكيان الإسرائيلي. فالمُحدَّدات التي ينطلق منها الكثيرون من العرب داخل "إسرائيل"، تتمحور حول القُدرة على تغيير الواقع الذي يعيشون ضمنه، من هنا كان التعويل كبيراً على مسار الانتخابات الخاصة بالكنيست في نيسان/ إبريل 2019.
فالناخِب العربي داخل "إسرائيل" يسعى إلى توسيع تأثيره بشكلٍ ملموسٍ على عملية صُنع القرار في الحكومة الإسرائيلية، الأمر الذي سيمكّن من تحويل موارد أكبر لصالح هذا المجتمع العربي الذي يعاني التمييز وسوء المعاملة و تردي الخدمات إلى حدود غيابها.
هذا الهدف يتجلّى بصورةٍ واسعةٍ بين الجيل العربي الشاب. فالفرضيّة القائِلة بأن السياسيين العرب إما غير قادرين أو غير مُهتّمين بالعمل على تحقيق هذا الهدف، كانت في نهاية المطاف سبباً رئيساً لتراجُع دعمهم في إبريل/نيسان 2019.
وبالتالي فإن التوجّهات القادمة تقتضي دعم القائمة المشتركة في الانتخابات القادمة، وصقل هذه التوجّهات بطريقةٍ تنعكس إيجاباً على واقع المجتمع العربي داخل "إسرائيل"، كما يُمكن التعويل عليها بُغية منع تمرير أيّ قرار يستهدف هذا المجتمع، مثل قرارات الهَدْم وغيرها من القرارات العنصرية.
في جانبٍ آخر، يعيش السكان الفلسطينيين في ثلاث مناطق رئيسة في البلاد: الشمال (71.6%) ويشمل لواء الشمال (53.7%) ولواء حيفا (17.9%)، والوسط (14.6%) يشمل لواء تل أبيب (1.5%) ولواء المركز (12.1%)، إضافة إلى ثلاث قرى في القدس المحتلة (1.03%) والجنوب (النقب) (13.8%).
عاش نحو 46.7% من السكّان العرب الفلسطينيين في العام 2006 في البلاد داخل تجمّعات سكّانية تقوم على إدارة شؤونها مجالس محلّـيّة قروية، ونحو 33.8% يعيشون في بلدات مُعرَّفة رسميّاً على أنها مدن، والبقية (نحو 19.5%) تتوزَّع بين نحو 8.2% يعيشون في مدن مُختلطة (تضمّ اللد والرملة ويافا وعكّا وحيفا و"معلوت" ترشيحا و"نتسيرت عيليت") ونحو 3.6% يعيشون في بلدات تخضع لسلطة مجالس إقليميّة.
من المُفيد أن نذكر بأن الفلسطينيين داخل الكيان قد اجتازوا مراحل عدَّة، بُغية تشكيل مجتمع له مواصفاته الخاصة. إضافة إلى ذلك، لا يُمكن إنكار المُعاناة من جهازٍ بيروقراطي عسكري فُرِض عليهم منذ تأسيس "إسرائيل"، وترك آثاره البالِغة عليهم.
المجتمع الفلسطيني في "إسرائيل" شهد محاولات عديدة للسيطرة عليه وعلى أبنائه، ومن المهم الإشارة إلى السياسات التي اتبعتها "إسرائيل" تُجاه هذه الفئة من السكان، والتي رمت جميعها إلى التطويع والسيطرة وبلورة سِماته بما يخدم أهداف الدولة والمجتمع اليهودي الحديث النشأة في البلاد. وقد توقّف العديد من الأبحاث عند هذه المسائل، ويمكننا الإشارة إلى الخطوط العريضة لأُسُس هذه السياسات، على النحو التالي:
- إخضاع السكّان العرب إلى ضراوة أنظمة الطوارئ والحُكم العسكريّ. هذا الأمر هو بمثابة غاية في حدّ ذاته، ووسيلة في الآن نفسه. جرى هذا الإخضاع ابتغاءَ الحفاظ على الفصل بين آثار وأشلاء المجتمع السابق والمجتمع الجديد الناشئ، وابتغاءَ تطويع هؤلاء السكان العرب والسيطرة عليهم على مختلف الأصعدة، عَبْرَ عزلهم عن المحيط العربي.
- إنشاء سلطات محلية للبلدات العربية مُرتبطة بالسلطة المركزيّة ارتباطاً وثيقاً، لأجل تعزيز أواصِر التبعيّة بدوائر الحكومة المختلفة، وإثارة النزاعات المحلّيّة وإذكائها وخلق مركز محلّي يمتّص الشعور بالأسى وخيبة الأمل بين السكّان ويقوِّض نشوء مشاريع ورؤى جماعيّة وسياسية.
- قمع جميع محاولات بناء مجتمع مدني وأحزاب ومؤسَّسات تمثيلية بين السكان العرب، ابتغاءَ تعزيز التبعيّة -على اختلاف صُعدها- بينهم وبين الدولة والمجتمع الإسرائيلي في البلاد.
- إفقار السكان العرب في البلاد وسَحْب الأموال النقدية من أياديهم، بهدف السيطرة عليهم اقتصادياً وتعزيز تبعيّتهم لسوق العمل الإسرائيلي.
الواضِح مما سبق، بأن صانِع القرار في "إسرائيل"، يؤطّر سياساته بُغية إخضاع المجتمع العربي بالوسائل كافة، لكن في المقابل، فإن هذه السياسات لم تؤثّر على الكثيرين من العرب الفلسطينيين، وإنما حاولوا التغلّب عليها ومُقاومتها، لكن غياب التنظيم بينهم في الداخل قوَّض العديد من المحاولات الرامية إلى كَسْرِ السياسات الإسرائيلية تُجاه العرب.
هذا الأمر يُمكن أن يُعزى إلى التحوّلات الكُبرى التي خضع لها الفلسطينيون داخل "إسرائيل"، من بينها ظهور مؤسَّسات وأطر سياسية وتمثيلية واجتماعية مختلفة، وظهور شرائح من المهنيين والأكاديميين ورجال الأعمال، والأهمّ من هذا وذاك بلورة طروحات سياسيّة تتحلّى بنبرةٍ ورؤيةٍ جماعيتين.
صانِع القرار في "إسرائيل"، ينظر إلى العرب على أنهم أقلّية، ويُمكن استيعابهم في دولةٍ يهودية، بحيث يُمكن إضفاء تعديلات جوهرية على مستوى حياتهم، وكذا على مستوى الخدمات، ولكن لا يمكن التعامُل معهم بصفتهم مجتمعاً أو مجموعة واحدة تتحلّى بحقوق جماعيّة واحتياجات مُتميّزة، مع الحرص على عدم تمكينهم من تهيئة مُناخ يُمكنهم من رفع سقف مطالبهم حيال تغيير النظام أو طبيعة الدولة أو قومية الدولة.
في المُحصِّلة، يُجابه الفلسطينيون داخل "إسرائيل" تمييزاً عنصرياً شاملاً في غالبية المجالات الحياتية مثل الحق في الأرض، والتعليم، واللغة، والعمل، والاقتصاد، والثقافة، والتعلّم، والبيئة، والبنية التحتية، والصحّة، والتمثيل السياسي، والمُخصَّصات الحكوميّة والميزانيات المختلفة.
ويعيش هؤلاء في مستوى معيشة مُنخَفَض؛ فنسبة البطالة ونسبة الفقر مرتفعتان إلى درجةٍ بالغةٍ وخطيرة، وتفتقر الكثير من القرى إلى الخدمات الصحية والتربوية، والبنية التحتية الأساسية التي من شأنها أن تبعث الأمل في إمكانية تغيير مستقبلي. وبإيجاز نقول إن مجتمعهم يُعدّ بمثابة المُحتَجز ضمن توصيف المواطنة من الدرجة الثانية.
تحت عنوان "مكانة الوسط العربي في إسرائيل"، نُشِر على الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الإسرائيلية مقال جاء فيه أن "إسرائيل تلتزم وكجزءٍ لا يتجزّأ من مبادئها، بضمان المساواة لجميع مواطنيها حيث تدأب الدولة على الوفاء بهذه المعايير التي حدَّدتها لنفسها. رغم الوضع المستمرّ من الصراع مع الفلسطينيين ومعظم الدول العربية الذي فرض عليها، تبقي إسرائيل على الوفاء بتعهّدها المنصوص عليه في وثيقة الاستقلال أن الدولة ستضمن المساواة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع مواطنيها من دون التمييز على أساس ديني وعِرقي وجنسي".
الغريب أن ما تدَّعيه "إسرائيل" لجهة الديمقراطية والحقوق والمساواة، نجده وضمن الواقع بعيداً كل البُعد عن التطبيق.