دستور تركيا الكونفيدرالي وأزمة العقل الدستوري الإسلامي
العقل الدستوري التركي الجديد يحاول إستعادة المجد الإسلامي وتوحيد الأقطار على أساس الأحلاف والمعاهدات التي تجاوزت سؤال الديمقراطية الداخلية وسؤال التطبيق الفعلي للشريعة وسؤال النظام الإقتصادي الإسلامي، نحو أسئلة استراتيجية جديدة.
يمثّل الدستور تلك الوثيقة القانونية التي تنبثق منها ملامِح النظام السياسي لأيّ بلد، ورؤيته لعلاقة السلطة بالحرية. إنها جواب السؤال عن شكل وطبيعة التنظيم الاجتماعي الذي يريد من خلاله كاتِب الوثيقة أن يحدِّد وينظِّم علاقات السلطة وطبيعتها، وأهم الحقوق المتمتّع بها.
ويكشف لنا لحن القول في الوثيقة الدستورية طبيعة العقل الفلسفي الذي أنتجها ونظرته الجيوستراتيجية وأسُس الشرعية السياسية التي يتّكئ عليها في بناء الدولة. في هذا السياق عرفت المجتمعات الإسلامية تجارب دستورية عديدة بدءاً من تنظيمات 1839 العثمانية وحتى الدساتير المشروطة في إيران والمغرب في بدايات القرن العشرين، التي ارتبطت بسياقات أزمة الإصلاح وبالنهضة العربية مع الأفغاني ورَفاعة الطهطاوي وأضرابهم.
في هذه الورقة الموجزة سنحاول أن نقرأ أهم ملامِح مشروع الدستور الأخير الذي اقترحته مجموعة تفكير إسلامية في تركيا، والتي كشف عنها مؤتمر ASSAM، بغية وضع هذا الأخير في سياقه من جهة، وفَهْم طبيعة الدولة التي يفكّر فيها العقل الدستوري لإسلاميي تركيا من جهةٍ أخرى. في هذا السياق لا بدّ من استعراض دساتير إسلاميين سابقة.
توفيقية البنا
اختار الإخوان المسلمون في مصر مشروع دستور 1952 النظام البرلماني شكلاً للدولة المصرية، التي بدأت آنذاك تنزع عنها لباس الملك، وبتصوّر تشريعي يُزاوِج بين تعاليم الإسلام والقانون الوَضعي، تأسّس مفهوم السيادة. ورغم المكنة التقنية لهذا الدستور، الذي احترم إلى حدٍ كبيرٍ ملامِح الأنظمة البرلمانية التي كانت سِمة الوقت بعد الحرب العالمية الثانية ودعوة أميركا والغرب إلى التعدّدية السياسية خوفاً من الفاشية والإشتراكية، إلا أن لغة هذا الدستور كشفت عن أزمةٍ حقيقيةٍ في تصوّرها للحقوق والحريات الدينية والسياسية. فالمادة 97 تعتبر الإسلام دين الدولة، وحسب المادة 98 فالإسلام، في نظر واضعي الوثيقة، لا يعترف بوجود الفِرَق والطوائف، كما أن الجوانب الإجرائية في علاقة الدين بالعمليات التشريعية لم تكن واضحة المعالم كما سنجد بعد ذلك مثلاً في تجربة الدستور الإيراني الذي تمّ تطبيقه فعلياً.
لقد كانت بصمة المؤسّس حسن البنا واضحة المعالم في هذا الدستور الأول في نزعته التوفيقية، وفي محاولة بناء رؤية سياسية تحترم الإسلام نظرياً وترغب عملياً في بناء مجتمع سياسي يرفض استبداد الحاكِم بالحكم، تكون للبرلمان فيه اليد الطولى في مراقبة البرلمان. لقد أراد "الإخوان" أن يستبدلوا النظام الملكي بنظامٍ جديدٍ يحظى فيه الإسلاميون بجزءٍ من السلطة يُدافع فيه عن الإسلام وعن الديمقراطية على حدٍ سواء.
حاكمية قطب
وبعيداً عن ثورة يوليو وسياقاتها، جاء مشروع دستور الأزهر سنة 1977 في ثوب رؤية فُقهية. لقد كان دستور العقل الفُقهي الذي حاول كاتبه مصطفى كامل وصفي إرضاء نزعتين تشريعيّتين مختلفتين: القانون الوَضعي والفقه الإسلامي التقليدي.
وكما درج على ذلك الكثير من فُقهاء السياسة الشرعية، تجاوز هذا المشروع سؤال المرتكزات الفلسفية والفُقهية للحُكم، وحاول بناء نموذج قانوني للبيعة الإسلامية، فالمادة 4 تعرّف الدولة الإسلامية بأنها تلك الدولة التي يكون فيها الحكم الأعلى لله سبحانه، وهو مصدر السلطان، والشريعة الإسلامية هي مشروعيّتها العليا ووليها إمام يتولّى الحكم والبيعة يعاونه أهل الشورى ويحكم بالسياسة الشرعية.
ركّز هذا الدستور على الأصول الفُقهية الخمسة وعلى المظاهر الدينية في المجتمع: الأمر بالمعروف (م7) والحجاب (م19) وشروط الإمام باعتباره قاضياً بدل أن يكون إماماً (م42) وتحريم الربا (م22) والصلاة في المساجد م28 وتنظيم صلاة الجمعة (م29). سيطرت فكرة الحاكمية التشريعية التي دعا إليها سيّد قطب على هذا المشروع من خلال تصوّر الجماعة الدينية الواحدة ومركزية الفُقه والفُقهاء فيه.
دستور الثورات
على صعيدٍ آخر، جاء مشروع دستور إسلام آباد سنة 1983 متأثّراً بالثورة الإيرانية وبالفكرة الإشتراكية، وبسياقات صراع المحاور التي يعرفها العالم الإسلامي آنذاك. ناقش الدستور أسئلة الشورى والأمّة والاستضعاف، وحضر فيه البُعد الإسلامي الدولي ومسارات الوحدة والتحرّر من التأثير الأجنبي والدعوة إلى قِيَم العدالة الإجتماعية والإقتصادية.
دستور السلطنة الكونفيدرالية
في ظل التحوّلات الجيوستراتيجية التي تعصف بالمنطقة العربية والإسلامية وتحوّل الكثير من الدول إلى مناطق نفوذ، تميّزت الوثيقة التركية بتركيزها على العالم الإسلامي وعلى كيانات الدول كنموذجٍ لبناء الإتحاد بعيداً عن كل إشارةٍ لطبيعة هذه الكيانات ومدى ديمقراطيّتها الداخلية.
قسّمت الوثيقة العالم الإسلامي إلى مناطق فيدرالية تتّحد داخلها الدول القومية الحالية: (الشرق الأوسط، الشرق الأدنى ...)، من جهةٍ أخرى ارتبط التقسيم بنظام الولايات العثماني القديم الذي تخضع فيه الدول العاصمة ( الخلافة): إسطنبول. يتشكّل هذا الإتحاد من خلال إرادة الدول القومية حسب الديباجة ما يجعلها دستوراً تعاهدياً على الطريقة الأميركية.
من جهةٍ أخرى تركّز لغة الوثيقة الدستورية على لغة التقسيم الإداري المناطقي وعلى نبرة تاريخ الولايات العثمانية، وعلى الخطاب الأميركي الجديد المتعلّق بالدعوة إلى الإزدهار prosperity، والأمن، وإعادة العالم الإسلامي كقوّة عُظمى (م7).
انشغل الكثير من مواد الدستور بضبط العلاقة بين الفيدراليات والدول القومية ورئيس العالم الإسلامي الرابِض في إسطنبول. نظام الدولة الإتحادية هو نظام رئاسي، يغيب عنه الكثير من مضامين الوثائق الدستورية السابقة، فالدين يتكلّف به مجلس شورى الشؤون الدينية الذي يتم انتخاب وتعيين أعضائه بشكلٍ مُشترَك بين الدول القومية والفيدرالية، والذي يحظى فيه الرؤساء بدورٍ مهٍم تعييناً وتسييراً.
وفي ما يخصّ الشريعة الإسلامية وسيادتها، فرغم أن الديباجة أكدت على الطابع الديني للدولة وتأكيد المادة 8 على سيادة الشريعة، إلا أن عموم مواد الدستور تكاد تخلو من أيّ أثرٍ لهذه السيادة ما عدا الإختصاصات الإستشارية الموكولة للمجالس الشورية الدينية التي يتمّ تعيين نصفها من طرف رئيس الدولة الإتحادية ورؤساء الفيدراليات والدول القومية، وانتخاب باقي الأعضاء من برلمانات الكونفيدرالية والدول الفيدرالية والدول القومية. فحامي الملّة والدين بهذا المعنى هو رئيس الإتحاد الكونفيدرالي.
يبدو أن واضعي هذا المشروع قد تجاوزوا إلى حدٍ بعيدٍ تلك الإنشغالات التي ظهرت في المشاريع السابقة عند إخوان الخمسينات (الدين والتوافق السياسي) وفي مشروع الأزهر (سؤال الحاكمية التشريعية)، أو تجربة إيران (الدين والثورة)، أو في دستور إسلام آباد (الإسلام والاشتراكية).
العقل الدستوري التركي الجديد يحاول إستعادة المجد الإسلامي وتوحيد الأقطار على أساس الأحلاف والمعاهدات التي تجاوزت سؤال الديمقراطية الداخلية وسؤال التطبيق الفعلي للشريعة وسؤال النظام الإقتصادي الإسلامي، نحو أسئلة إستراتيجية جديدة نبتت من رَحْمِ الواقع التركي الجديد ومن مستقبل المنطقة بعد مرور مئة عام من العزلة العثمانية، التي فرضتها معاهدات سيفر ولوزان.
لا زال العقل الدستوري الإسلامي إلى اليوم رغم تعدّد تجاربه ومشاربه رهين الذاتية التي يرى بها كل تيّار نفسه وريثاً وحيداً للتاريخ والتراث، فالنموذج العثماني السلطاني اليوم أصبح مطمحاً عظيماً في أعين الكثيرين، والذي لا تزيده وسائل الإعلام والسينما والتلفزيون إلا إغراقاً في المثالية النوستالجية، فالكثير من العرب لم يستفيدوا كثيراً على ما يبدو من تجارب القومية العربية السابقة، التي ظلّت تحكم عقوداً طويلة الأرض ومَن عليها بمشاريع الوحدة المصمتة التي لا يعلو فيها إلا صوت القائد الوحيد الأوحد الذي سيُغيّر العالم بعصاه السحرية.