الخطاب الإعلامي في ميادين الصِراع .. اللعبة الخطرة
نحن في زمنٍ نرى فيه خطابات إعلامية شجاعة تنشر الحقائق، ونرى خطاباً يسعى إلى التلاعُب بالعقول.
إنّ عالمَ ما بعد الحَداثة وما تبعه من تغيّراتٍ مُتلاحِقةٍ عَصَفت بالنظام العالمي الجديد قد أعاد تشكيل العلاقات الدولية وفقاً لموازين تَرَكَت المُنظّمات والمؤسَّسات الدوليّة عاجِزة عن حلِّها أو حتى التحكّم فيها، وأنشأ أنظمة سياسيّة ذات أشكال وأيديولوجيات لاتؤمِن بمبدأ العدالة في علاقاتها السياسية والاقتصادية وحتى الفكريّة، مُشوِّهة بذلك القِيَم الأخلاقيّة والعقلانيّة للعلاقات الدوليّة، كل ذلك قاد إلى أنْ يكون للخطاب الإعلامي الحُر الدور المحوري بوصفه السلطة الرابعة وَلِيُنْشِئ لنفسه وجوداً أيديولوجيّاً يستطيع من خلاله أنْ يكون فاعِلاً على الخريطة السياسية، وصادِقاً في إيصال الحقيقة إلى المُتلقّي كاملة من دون تحريفٍ أو تزوير.
وفي الوقت الذي نرى فيه خطاباً أخلاقيأً يمتاز بالمحوريّة في بناء الفكر والمعرفة، واستنهاض الأفهام الإنسانية وإبراز الحقيقة ورَدم هوَّة الخلاف بين أفراد المجتمع الواحد ودعم التنمية وتعزيز الأمن والاستقرار، فإننا في الوقت ذاته نشهد صوتاً نشازاً يُمثّل محور الشر، يسعى إلى إذكاء الصراع وإشعال نار الفتنة والحروب ونشر الأفكار المُضلِّلَة وتدمير القِيَم الأخلاقيّة ويبثّ الفِرقة ويزرع الخوف ويُزيِّف الحقائق من أجل إحكام سيطرته السياسية والاقتصادية والفكريّة.
لقد أصبحنا اليوم نعيش في فضاءٍ مفتوح، تسوده الفوضى والصِراعات، ولا تحكمه نُظُم ولا قوانين، مُرشَّح لسيناريوهات مؤلِمة ومُثيرة للهَلَع لعلَّها تفوق تلك التي عاشها الناس ما قبل أيّام الحرب البارِدة، سببها الإنحيازيّة والمصلحيّة لدول سخَّرَت إيديولوجيا الصوت والصورة، لِتُحلِّق في الأثير اللامحدود مُخترِقة السيادة، ومُتجاهِلة الانتماءات الفكريّة والقومية والعقائدية للشعوب والمجتمعات، وضارِبة عَرْضَ الحائط جميع القوانين والأعراف والمواثيق الدولية من أجل ترسيخ نظريّة مجتمع الإعلام العالمي، والذي يَعْتَبره الكثير من خُبراء الإعلام أنّه النسخة المُطابِقة لما يُعرَف بالعَولَمة.
قد ينظر البعض إلى أن الفلسفة السفسطائية تقدِّم للخطاب تفسيرات ورؤى مبنيّة على إمكانية المُراوغة والمُغالَطة من أجل التدليس وتحريف الحقائق، ومنذ ذلك الحين بدأت دراسة العلاقة بين لغة الخطاب والنظام السياسي، وهل لهذا الخطاب منهج مستقل أم أنّه مبني على تبعيّة سياسية؟ إنّ أفضل مَن أجاب على هكذا تساؤلات هو ميشيل فوكو، فله مقولة مشهورة أوردها في كتابه "إرادة المعرفة" يقول فيها: (ففي الخطاب بالذات، يحدث تمفصل السلطة والمعرفة، ولهذا السبب عينه، ينبغي أن نتصوَّر الخطاب، كمجموعةِ أجزاءٍ غير متّصلة وظيفتها التكتيكية غير مُتماثِلة ولا ثابتة، بصورةٍ أدقّ يجب أن لا نتخيَّل عالماً لخطاب مُقسَّم بين الخطاب المقبول والخطاب المرفوض... بل يجب أن نتصوّره كمجموعة عناصر خطابية تستطيع أن تعمل في استراتيجياتٍ مختلفة: الخطاب ينقل السلطة ويُنتجها، يقوِّيها، ولكنه أيضاً يُلغمها، يُفجِّرها، يجعلها هزيلة، ويسمح بإلغائها).
وإذا نظرنا إلى البُعد الفلسفي في الخطاب الإعلامي نجده ينقسم إلى عدّة اتّجاهات، أهمّها الفلسفة الليبرالية في الإعلام والتي تستند إلى سياسة المُصارَحة والشفافية في نشر الحقائق بصورةٍ موضوعيةٍ من دون تحريف أو تزوير، وذلك من أجل بناء مجتمع يسوده الوعي والإدراك، والاتجاه الآخر المُتمثّل في الفلسفة الاستبدادية في الخطاب الإعلامي والتي تعتبر أنّ للسلطة مرتبة تفوق مرتبة الشعب، وأنّ رأيه يجب ألا يتقاطع مع رأي السلطة وأنّ النضوج الذي تتمتَّع به السلطة يفوق الوعي الفردي.
وانطلاقاً من هذين الاتجاهين نرى أنّ تبعيّة الخطاب الإعلامي أو استقلاليّته وامتلاكه لسُلطته الذاتيّة مبنيّ على درجة التحليل النقدي التي يُقدِّمها الخطاب للحقل الذي يتناوله في خطابه، ومِن ثُمّ رَبْط حَقل التحليلات هذا مع المعايير والمناهج الأخلاقية للأنظمة السياسيّة التي تخوض المواجهات لمعرفة مصداقيّة الخطاب واستقلاليّته أو تبعيّته لهذا النظام السياسي أوذاك.
وبناءً على ذلك، فالقاعدة الصلبة التي يستند إليها الخطاب الإعلامي للمدرسة الاستبدادية يَتَمَحور في الدفاع عن أيديولوجيات تلك النُظُم من دون مُراعاة لأخلاقيات وأعراف الخطاب مُستخدِماً سياسة حَجْب وتزييف وتقزيم الأبعاد الحقيقية للحقائق.
فلسفة انتهكت سيادة دول وحُرمة شعوب وهيمَنت على عقول مجتمعات من خلال ما يُسمَّى بمجتمع الإعلام العالمي والذي يهدف إلى تشكيل موجاتٍ ثقافيّةٍ يُسيِّرها ويُغذّيها الإعلام الاستبداديّ والذي يقدِّم خطاباً إعلامياً مزوَّراً، غزو فكري يَسحَق انتماء الأفراد لِقِيَمهم ومُعتقداتهم ويُغذّيهم بِقِيَمٍ وسلوكيّاتٍ تربطهم بما يُسمَّى ثقافيّات المجتمع العالمي، وبذلك تتمّ عمليّة إدارة الصِراعات عبر الأثير، حتى إذا حانت الساعة بدأت عمليّة الاحتواء السياسي والهيمنة الاقتصاديّة على مُقدَّرات أمم وشعوب من دون الاكتراث للمعايير والقوانين وحتى الأعراف الدوليّة.
وفي ظلّ هكذا صِراعات لا تضع للقِيَم الإنسانية حُرمة نرى في المدرسة الليبرالية الجُرأة والشجاعة والصدق في الخطاب الإعلامي ليتحوّل إلى رايةٍ يلتفّ حولها الأحرار وبوصلة ورقم قِيَمي يواجه الضغوطات السياسية والتحديات الفكريّة التي تنتهجها النُظُم القمعيّة والاستبدادية. خطاب يتَّسم بالاستقلالية والقِيَم الأخلاقية والصدقيّة ويحمل أيديولوجيات غير مُستورَدة ولا تخضع للبيع والشراء.
لذلك نَرى أنّ العلاقة بين الحقيقة والخطاب الإعلامي علاقة تتمرجَح بين الصدق والزّيف، فنحن في زمنٍ نرى ونسمع فيه خطابات إعلامية مقاوِمة شجاعة تنشر الحقائق من دون تردّد أو كِتمان أو تزييف، ونرى خطاباً يسعى إلى التلاعُب بالعقول ويوجِّه أفكاراً هدَّامة بقَصْدِ التضليل والخِداع، يُلبس الكذب لباس الحقيقة من أجل إيهام المُغفَّلين مُستعيناً بمنظوماتٍ فكريّةٍ تصوغ الخطابات وفقاً لأفكارٍ ومفاهيم تنسجم مع أذواق المُتلقّين ومُتَّبعاً أسلوب التكرار لتحويل الأكاذيب إلى حقائق وبديهيات من أجل مصالح سياسية، أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة، فتترسَّخ في ذِهن المُتلقّي ليبدأ بتقبّلها على أنّها حقائق ومُسلَّمات.
وأما الخطاب الحُر فحينما يَبنى وجوده على أساس نظرية المعرفة في نقل الحقيقة مُعتمداً الإرادة في نقلها بأمانةٍ من دون تحريف أو تشويه، فإنه بذلك يُؤسِّس لأيديولوجياته الخاصة ويُقيم كيانه المستقل، فالمعرفة والإرادة والحقيقة هي أضلاع النجاح في الخطاب الإعلامي المُستقل. فالمعرفة هي التي تُحدِّد مقبوليّة الخطاب من خلال العِلْميّة والدِّقة والابتعاد عن التعدّي والالتزام بالمنظومات المنطوقية من أجل تشكيل خطاب تحكمه الأيديولوجية المُعتمَدة والضوابِط الأخلاقية والتي تُعين على إدراك الحقيقة وتنقلها بكل دقَّةٍ وشفافيّة.
إنّ المُضيّ بخطابٍ إعلامي أساسه الحقيقة والأخلاق وإنْ كانَ أمراً شاقاً لكنّه ليس فكراّ طوباوياً غير قابل للتحقّق، فمن خلال قراءة علمية وموضوعيّة لِقِيَمِ وأخلاقيّات النظام العالمي الجديد، ودراسة مُعمَّقة لسيكولوجيّات وثقافات ومُعتقدات وأعراف الشعوب، ثمّ الاستعانة بالتكنولوجيا الذكيّة في نقل الخطاب الإعلامي يستطيع هذا الخطاب أن يفرض وجوده ويوصل صوته وإلى جميع.. الميادين.