رداً على صفقة القرن.. لماذا غابت تظاهرات الفلسطينيين في سوريا؟
أكبر تحدٍّ يواجه الحقوق الفلسطينية منذ عقود، لم يقابله تحرك شعبي يحاكي تحركات فلسطينية اعتياديَّة، غضباً ورفضاً لما يحدق بالحقوق التاريخية الفلسطينية: الدولة وعاصمتها القدس وحقّ العودة.
باستثناء اجتماعات الفصائل الفلسطينية وبياناتها ضد "صفقة القرن" الأميركية - الإسرائيليَّة، لم يظهر تحرك شعبيّ بين الفلسطينيين في سوريا يتناسب مع مستوى الخطر.
أكبر تحدٍّ يواجه الحقوق الفلسطينية منذ عقود، لم يقابله تحرك شعبي يحاكي تحركات فلسطينية اعتياديَّة، غضباً ورفضاً لما يحدق بالحقوق التاريخية الفلسطينية: الدولة وعاصمتها القدس وحقّ العودة.
شارك بضع مئاتٍ من المصلين في وقفات ومسيرات غاضبة بعد صلاة الجمعة في 31 كانون الثاني/يناير في مخيمات جرمانا وخان دنون ومصلى السيدة زينب جنوب دمشق، فيما شارك العدد الأكبر منهم في مخيم النيرب في حلب.
بدا المشهد غريباً للغاية مقارنة بهبّات شعبية لطالما عرفتها المخيمات والتجمعات الفلسطينية في سوريا قبل العام 2011؛ عشرات الآلاف اكتظَّت بهم شوارع مخيم اليرموك خلال تشييع القائد الفتحاوي، خليل الوزير أبو جهاد، في نيسان/أبريل 1988، وخلال الانتفاضة الأولى أيلول/سبتمبر في العام 1993، والثانية أيلول/سبتمبر في العام 2000، والعدوان الإسرائيلي على غزة في العام 2008 "بقعة الزيت اللاهب"، وعند وقوع جريمة اغتيال القيادي في حماس محمود المبحوح في دبي، وتشييعه إلى مقبرة الشهداء في المخيّم. وكذلك الأمر في مناسبات سنوية، مثل يوم الأرض والنكبة ويوم القدس العالمي.
لم تكن صلاة يوم الجمعة تمرّ من دون أن يخرج الآلاف في وقفات ومسيرات حاشدة تنطلق من جامع "الوسيم" باتجاه مدخل مخيم اليرموك أو نحو مقبرة الشهداء جنوباً.
كان المخيَّم ملتقى المراسلين والصحافيين والمثقفين، بحثاً عن تغطية أو تصريحات من قادة العمل المقاوم، خالد الفاهوم، وجورج حبش، وأبو علي مصطفى، وأحمد جبريل، ورمضان عبد الله شلح، وخالد مشعل... تصريحات كان يتردَّد دويها بعيداً إلى القدس المحتلة والعواصم الإقليمية المعنيَّة، وشكَّلت في الوقت ذاته أحد عوامل القوّة في السياسة الخارجية السوريَّة.
كلّ ذلك بات تاريخاً. لقد أصبح مخيم اليرموك، عاصمة الشتات الفلسطيني، كما يسمّيه معظم فلسطينيي سوريا، أثراً بعد عين إثر تمترس المسلّحين بكلّ تشكيلاتهم في أزقّته، إلى أن استباحته جبهة النصرة وداعش منذ العام 2014، ثم طردهم منه في عمليّة عسكريّة حاسمة للجيش السوري وبعض الفصائل الفلسطينية في أيار/مايو 2018.
إنَّ تدمير مخيم اليرموك، على الرغم من أنَّ وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" لا تصنّفه كمخيم، قضى على قلعة رئيسية للعمل الشعبي والسياسي والفصائلي والفكري الفلسطيني.
خرج أكثر من 200 ألف فلسطيني من المخيّم على دفعات، ولجأوا إلى لبنان والأردن ومصر وتركيا وأوروبا عبر البحر، أو نزوحوا إلى ضواحي العاصمة السورية القريبة، على أمل عودة سريعة لا تبدو اليوم متاحة للجميع، في ظل حجم الدمار الرهيب في المخيم.
لم تختلف الصورة كثيراً في مخيمات أخرى، على الرغم من أن الأضرار التي أصابت البنى التحتية والمباني كانت أقل بكثير، كما في مخيم خان الشيح والسبينة غرب دمشق وجنوبها. وقع الخراب الحقيقي في البنية المجتمعية لتلك المخيمات التي غادرها عشرات الآلاف.
وفي بعض التقديرات، بات أكثر من 200 ألف فلسطيني خارج سوريا من إجمالي نحو 500 ألف فلسطيني كانوا مسجّلين قبل العام 2011، من بينهم 400 ألف فلسطيني يعاملون معاملة السوري بالحقوق والواجبات.
نزف 13 مخيماً فلسطينياً في سوريا، تعترف وكالة "الأونروا" بعشرة منها كمخيمات، بينما المخيمات الثلاثة الأخرى، وهي اليرموك والرمل في اللاذقية وحندرات في حلب، لا تصنّفها كمخيّمات. أعداد كبيرة من الفلسطينيين، معظمهم في سن الشباب، كانوا العامل الرئيسيّ لكلّ التحركات على الأرض، غادروا سوريا، فيما تكفَّلت الأوضاع المعيشية، وهمّ ترتيب المسكن بعد النزوح، والدمار الناجم عن الحرب، بمن قرَّروا البقاء فيها، وأدت الظروف المحدقة بالعمل الوطني الفلسطيني إلى عزوف شعبي متزايد عن الفصائل.
كلّ هذه العوامل ساهمت في تغييب المشاهد الاحتجاجية الحاشدة في المخيمات عن واجهة الحدث، مهما بلغت خطورته وصعوبته.
لقد فعلت الحرب على سوريا منذ العام 2011 فعلتها، وتمكَّنت القوى التي خطَّطت لإدخال المخيمات الفلسطينية في أتون الحرب السورية من تحييد كتلة بشرية فاعلة قدَّمت آلاف الشهداء والمصابين والأسرى في العمل المقاوم المسلَّح منذ انطلاقته رسمياً من الأراضي السورية في العام 1965. لقد تحوّلت الاحتجاجات إلى أوجاع داخليَّة، في ظلّ الانهماك بالبحث عن حياة أفضل لطالما وفَّرتها تلك المخيمات قبل الحرب.