الجوانب غير الأخلاقية وغير القانونية لصفقة القرن

قبل أن يطرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب خطّته المسماة "صفقة القرن" في 28 كانون الثاني/يناير 2020، كانت دراسات المهتمّين بالسياسة والقانون الدولي وتوقعاتهم المسبقة تشير إلى أنها ستكون بعيدة عن العدالة وغير منسجمة مع القرارات الدولية، بسبب الغموض الذي رافقها منذ التلويح بها وحصر تفاصيلها بالكيان الإسرائيليّ فقط.

  • الجوانب غير الأخلاقية وغير القانونية لصفقة القرن
    وضع ترامب صفقته بمعزل عن المجتمع الدولي ومبادئ الأمم المتحدة وقراراتها (أ ف ب).

وبعيداً عما تحمله هذه الصفقة الأحادية الجانب من حلول قابلة أو غير قابلة للتنفيذ، إلا أنَّها حملت في النهاية صفتين أساسيتين هما اللاأخلاقية واللاقانونية. لقد وجد ترامب الأرض خصبة بعد أكثر من 5 عقود أمضتها الولايات المتحدة الأميركية في العمل على تهيئة هذه الأرضية للوصول إلى هذه الخطة. بدأ الأمر عندما قامت الولايات المتحدة الأميركية ودول خليجية بتشجيع صدام حسين على إعلان حرب ضد إيران دامت منذ العام 1980 ولغاية العام 1988، وأدت إلى تدمير الاقتصادين العراقي والإيراني ومقتل الملايين وإصابتهم، ثم منحه مجدداً الضوء الأخضر من قبل الولايات المتحدة الأميركية ليقوم بغزو الكويت في العام 1990، ليقسم العالم العربي بين مؤيّد ومعارض.

وما إن تمّ ضرب برجَي التجارة، حتى تمكَّنت الولايات المتحدة الأميركية من القفز على كل المواثيق والمعاهدات الدولية، لتتجاوز المجتمع الدولي الممثل بالأمم المتحدة، وتتخطى القانون الدولي، وتقوم في العام 2003 بغزو العراق من دون تفويض دولي، تحت ذريعة محاربة الإرهاب، وهو ما أدى إلى استشهاد أكثر من مليون عراقي، وتشريد ما يقارب 4 إلى 5 ملايين شخص، وتدمير كل مفاصل الدولة العراقية، من جيش ووزارات، وإدارات ومرافق عامة، ورموز حضارية، وبنى اجتماعية وثقافية، وعلاقات قبلية وعشائرية وسواها، تحت مسوغ صريح ومباشر، هو تدمير القائم "المتقادم" لخلق الجديد القادم.  

وبذلك، وفي العام 2005، أعلنت وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأميركية، كوندوليزا رايس، عن نشر الفوضى الخلاقة في منطقة الشرق الأوسط، تمهيداً لإقامة شرق أوسط "جديد" ثم "كبير"، ليكون بديلاً من سايكس - بيكو، ويؤدي في النهاية إلى تقسيم المقسّم وإنشاء دول جديدة، عن طريق تأجيج الصراعات العرقية والطائفية وإحيائها والدفع بها إلى أقصى مدى، لتبدو وكأنها تعبير طبيعي عن واقع كان مضمراً، وتأجيج العصبيات بشكل متدرج من الناحية الزمنية والتنفيذية، بهدف تقويض ركائز الدولة الواحدة، لتصبح مجتزَأة إلى كيانات بدائية، ثم تنتقل إلى ضرب البعد الأمني، عن طريق افتعال الفتن وتنفيذ الاغتيالات والتصفيات والتفجيرات، لتصل بعدها بالوضع الاقتصادي والمالي إلى الانهيار، فتتحرك الآلة الإعلامية للترويج لكيفية الخلاص من هذه الأنظمة الشمولية لتحقيق الديمقراطية وحقوق الإنسان. 

هذه الأفعال أسّست لصفقة القرن بعد أن بقيت ناراً متقدة تحت الرماد وسرعان ما انتشرت، بدءاً من احتلال العراق، وصولاً إلى ما سُمي بـ"الربيع العربي"، إذ عملت على اللعب على التناقضات الداخلية والدفع بها إلى آمادٍ يتحول بمقتضاها الكل مع الكل ضد الكل، فكان لا بد من تدمير سوريا وليبيا واليمن والعراق ولبنان، ليتفرق العرب وتشتد العداوات بينهم، لتصب في النهاية في تعظيم المكاسب الأميركية وضمان تفوّق "إسرائيل".

لقد شهدت الدول العربية عشرات الاعتداءات والحروب التي قام بها الكيان الإسرائيلي، من مثل حروب 1948 و1967 و1973 و1982... وكان المجتمع الدولي يقوم دائماً بإصدار القرارات الملزمة وغير الملزمة، لإيجاد الحلول التي تفضي إلى إنهاء النزاع العربي - الإسرائيلي. ومن أشهر القرارات الملزمة القراران الصادران عن مجلس الأمن رقم 242 في العام 1967، والقرار رقم 338 في العام 1973.

ووسط غيابٍ وتهميشٍ واضح للعرب عموماً، والفلسطينيين خصوصاً، جرى التشاور بشأن الصّفقة بتفاصيلها مع الحكومة الإسرائيلية، وتمت هندستها وفق المقاييس التي تناسبها، من دون إشراك الجانب الفلسطيني، مع الاكتفاء بتلميحات لبعض الدول العربية لتهيئتها وإلزامها بدفع الأموال اللازمة لإتمام الصفقة وإنجازها، في ظل صمت مطبق.

وقد ترتَّب على طرح صفقة القرن في هذا الوقت استغلال عاملين مهمين؛ يتعلّق الأول بملاحقات تطال كلّاً من ترامب ونتنياهو، من خلال اتهامات كبيرة بتجاوزات قانونية وقضايا فساد قد تؤدي إلى عزلهما، والآخر يتعلّق بحالة الوهن والانحطاط والضعف العربي، فالموقف العربي الرسمي ميؤوس منه وخنوع بشكل هائل. 

وضع ترامب صفقته بمعزل عن المجتمع الدولي ومبادئ الأمم المتحدة وقراراتها، لتخرج الولايات المتحدة من جديد بتمرد آخر على الشرعية الدولية بعد جرائمها في احتلال العراق ونشرها الفوضى الخلاقة التي أصابت كلاً من سوريا ولبنان وليبيا والعراق واليمن. 

قرر ترامب بطريقة فردية نقل سفارة بلاده إلى القدس وإعلانها عاصمة "إسرائيل" الموحدة في كانون الأول/ديسمبر 2017، ليقوم بعدها بحجز 65 مليون دولار من الأموال المخصّصة لوكالة الأونروا في آب/أغسطس 2018.

وفي آذار/مارس 2009، قرر ضم الجولان السوري المحتل إلى الكيان الإسرائيلي قائلاً: "بعد 52 عاماً، حان الوقت لكي تعترف الولايات المتحدة بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان"، ثم أمر بعقد مؤتمر البحرين في حزيران/يونيو 2019 تمهيداً لطرح "صفقة القرن"، وذلك لجمع الأموال اللازمة لنجاحها. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2019، قرّر تغيير وصف المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية من "غير شرعية" إلى "شرعية".

هذه الخطّة واللعبة دنيئة وفاشلة من بدايتها إلى نهايتها، فلا يمكن لدولةٍ، مهما كبر حجمها وشأنها وقوتها، أن تتجاوز المجتمع الدولي والقرارات الأممية والقوانين والاتفاقيات الدولية وإرادة الشعوب، لتطرح خطةً تسمّيها "صفقة" وتهدّد بتنفيذها؛ "صفقة" تقوم بموجبها دولة فلسطينية مقطّعة الأوصال، تشمل أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة، يتم ربطها ببضعة جسور أو أنفاق، وتحرمها من السيطرة على المجال الجوي والمعابر الحدودية، وتنزع السلاح منها، وتقيد سيادتها بعقد الاتفاقيات، وتحرمها من بناء جيش يدافع عنها، وتنزع الأماكن المقدسة منها... وعلى دول الخليج أن تدفع.

سنتان من التحضير والتنازلات من قبل إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من أجل إعلان ما بات يعرف بـ "صفقة القرن"؛ هذه الصفقة التي يراد منها الإمعان في ظلم وسرقة الشعب الفلسطيني وإنتهاك حقوقه.