لماذا نلوم إيران؟
العدوّ الحقيقي هو الفتنة الطائفية والمذهبية المقيتة التي اخترعتها أميركا وبريطانيا، وغذَّتها "إسرائيل"، ورعتها ونفخت في جذوتها للأسف دول عربية.
أعداء إيران صنفان؛ إما أقوياء يكرهونها ولكنهم يحترمونها، مثل أميركا وبريطانيا و"إسرائيل"، وإما فاشلون يحقدون عليها ويتمنّون زوالها، مثل بعض الدول الخليجية.
إذا كنا لا نحتاج إلى تحليل الصنف الأول لشدَّة وضوحه واتّساقه مع منطق الأمور، فإن عيِّنة الصُنف الثاني تحتاج ربما إلى مُقاربةٍ نفسيةٍ أكثر منها سياسية، فهؤلاء لا يُعادون إيران بسبب ما فعلته، ولكن بسبب ما يعتقدون أنها ستفعله وما تُضمره، فكل الاتهامات تصبّ في كون الإيرانيين مشروع عدو لديه أطماع توسّعية، وأنهم يتدخّلون في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، ويسعون إلى تشييع المجتمع السنّي، وهي كلّها اتهامات افتراضية مبنية في غالب الأحيان على تصيّد الأخطاء وتفسير المواقف وفق مبدأ سوء النيّة.
من حيث الوقائع، وبعيداً عن مُحاكمة النيات، فإنَّ الحديث عن تشييع المجتمعات السنّية لم يستند إلى أي إحصائيات أو شواهد علمية تدعمه. كما أن تُهمة التدخّل في شؤون الغير تدحضها العلاقات الطيّبة والمحترمة مع بعض دول الجوار، من مثل سلطنة عُمان، التي يُضرَب بتجربتها المثل من حيث التعايُش بين الطوائف والمذاهب الإسلامية، ومن ضمنها المكوّن الشيعي طبعاً.
إن استعداء هذه الفئة لإيران يُشبه حال التلميذ المدلَّل الذي تشتري له لعبة ألحَّ في طلبها. ورغم ذلك، يُصرّ على مواصلة البكاء، وعندما تسأله: لماذا تبكي!؟ يجيبك بعنادٍ ممزوجٍ بغباء: لأنّ زميلي حصل على العلامة الكاملة في جميع المواد، بينما حصلت على علاماتٍ ضعيفة، والحل الوحيد الذي يُرضيني حتى أتوقّف عن البكاء هو أن يُعطَى زميلي علامة صفر، حتى أستعيد كرامتي التي سلبها مني، وأبدو أمام الجميع أني أكثر نجابةً منه.
بدلاً من أن يجتهد هذا التلميذ ليحصل على علاماتٍ أعلى، فإنه يُطالب بكسر جناح زميله، حتى يبدو أنه أفضل منه. هذا السلوك يُمارسه فعلياً في واقعنا المعيش الأغبياء من أبناء الأثرياء - الذين تتراكم لديهم مع مرور السنوات حالة من الحقد ترسم في الغالب ملامح نهاياتهم المأساوية - تماماً مثلما تفعل بعض الأنظمة العربية التي تسعى إلى إضعاف دول مركزية شقيقة من أجل أن تتربَّع على كرسي الزعامة. والشواهِد على ذلك كثيرة، بدءاً من التآمر على تدمير العراق وليبيا واليمن، ومحاولة إسقاط سوريا، واستهداف الجزائر، وليس انتهاء بمحاصرة مصر وسحبها من منصّتها ودورها العربيين.
هل المطلوب من إيران أن تتنازل عن حقّها في الوجود، فترمي بنفسها في البحر إكراماً لجيرانها المتعطّشين لفنائها، أو تتوسَّل ليتمّ إسقاطها طواعية من قائمة الناجحين لإرضاء خصومها الفاشلين، أم يجب أن تلطم على وجهها صباحاً ومساءً، لأن قَدَر الجغرافيا المحتوم وضَعها بالقرب منهم، فلا هم اجتهدوا ليكونوا أقوى منها، ولا اعترفوا لها بأنها خصم قوي جدير بأن يحترموه ويخشوه خشيتهم أعداءهم الحقيقيين، ولا قدَّروا قيمتها وتفوّقها وسعوا إلى التقرّب منها والاستفادة من نجاحها، فنسجوا معها علاقات أخوّة وحُسن جوار!
بدلاً من ذلك، يمعنون في البكاء ولومها على خيباتهم وضعفهم، بل حين يتحدَّث مرشد الثورة السيِّد علي الخامنئي بلغةٍ عربيةٍ عَذْبةٍ وسليمةٍ قَلّ نظيرها لدى الزعماء العرب، فتلك أيضاً مشكلة إيران، إذ كان يفترض به أن "يجبر خاطرهم" ببعض الأخطاء اللغوية هنا وهناك حتى يستريحوا ويكفّوا عن البكاء والنواح.
إيران ليست جمعية خيرية، بل هي دولة لها من دون شكّ حساباتها وخططها ومصالحها التي قد لا تتقاطع دائماً مع مصالح بعض الدول العربية، وهي حال العلاقات الدولية في كلّ العالم، ولكن الاختلاف، مهما كَبُر، لا يمكنه أن يُبرِّر هذا الحجم من الكراهية الفجَّة التي تستند إلى خطاباتٍ وتهمٍ هي أقرب إلى السطحية المبتذلة والتقعّر الساذج منها إلى حقائق ملموسة يُمكن تتبّع مساراتها أو تلمّس نتائجها، بينما يستفيد الأعداء الذين نعرفهم بشحمهم ولحمهم، والذين يعترفون بعدائهم لنا جهاراً نهاراً، من قرينة البراءة التي تعني هنا أنّ المتهم بريء حتى تثبت "براءته".
الإصرار على إثارة المخاوف من عدو وهمي اسمه إيران لا يُمكن أن يغطّي على واقع أنَّ هناك عدواً حقيقياً يحتلّ أرضاً عربية طيّبة ومُقدَّسة اسمها فلسطين، وأنَّ الذي يُدين إيران، مُستنداً إلى عاملي الافتراض والشّبهة، هو ذاته الذي يتلكّأ في إدانة العدو الإسرائيلي، ويُحاول أن يجد له أعذاراً تفوق في درجة ابتذالها التّهم الموجّهة إلى إيران، وهو ذاته الّذي يُقيم علاقات غير سويّة في وَضَح النهار مع دول لا اختلاف في عدائها للأمّة، بينما يتّهم الآخرين بترتيب علاقات سرّية غير مُثبتة مع الدول ذاتها.
العدوّ الحقيقي هو الفتنة الطائفية والمذهبية المقيتة التي اخترعتها أميركا وبريطانيا، وغذَّتها "إسرائيل"، ورعتها ونفخت في جذوتها للأسف دول عربية، فوفّرت لها حاضِنة إعلامية قوَّت انتشارها ودعمتها بفتاوى دينية من أنصار الفكر المتطرِّف من الجانبين السنّي والشيعي، لتتحوّل إلى الظاهرة الأولى التي تحظى بالاهتمام والمتابعة في العالمين العربي والإسلامي، بعد أن كانت القضية الفلسطينية هي الحَدَث الجامِع الذي تذوب فيه كل الصراعات والخلافات.