لو كانت الخِدَع سلعاً تُباع
اعتقادنا بأن هناك دائماً مرحلة أسوأ مما نحن عليه يمكن أن يدحرجنا إليها الأميركي، هو ما يسمح بخِداعنا كل مرة خوفاً من أن نخسر شيئاً نحن في الحقيقة قد خسرناه.
لو كانت الخِدَع سلعاً تُباع كحصص مُحدَّدة لكل شعب أو أمَّة، لكان العرب استنفدوا كل الحصص المُتاحة لهم ولغيرهم خلال نكبة فلسطين وحدها، ما يجعلهم نظرياً مُحصَّنين من فعل الانخداع مرة أخرى، ليس لأنهم لا يريدون ذلك ولكن لأن منطق الخِدعة يعتمد على عنصر المُفاجأة ومبدأ عدم التكرار، ومادام خزَّان الخِدَع بات فارِغاً بعد ما استهلكه العرب بِنَهَمٍ شديد فإنه لا مجال للانخداع.
غير أنه بعد سنوات قليلة من النكبة انخدع العرب مرة أخرى، في لحظة فارِقة من تاريخهم، حين اطمأنوا لمعادلة أنه ما عاد من الممكن خِداعهم بعد أن استهلكوا حصَّتهم وحصَّة أحفادهم من الخِدَع، من دون أن ينتبهوا إلى أن تركيزهم على الخِدَع وحدها لن يُنجّيهم من تكرار ذات النكبة وذات المصير، لأنهم نسوا أن يحتاطوا من بائع الخِدَع نفسه، الذي يبيع لهم الخِدَع القديمة على أنها جديدة وهم يُصرِّون على أنهم بأمانٍ ما دام مخزون الخِدَع قد نفد.
أزمة العرب أنهم لا زالوا يعتقدون أن الأميركي خصم شريف وأنهم يختلفون معه في التفاصيل فقط، بينما الحقيقة أن الأميركي بنى فلسفة وجوده على إلغاء الآخر وعلى أن المكان لا يتّسع سوى له وحده، فتلاعُب الأميركي بالآخرين هو عمل أصيل في تركيبته النفسية وتكوينه المادي، فحين يخون الأميركي فتلك ثقافته وسجيّته، فلا يحتاج العرب أن يضغطوا على ذاكِرتهم ليستعيدوا صورة العُنصرية البغيضة للعمّ سام التي بررَّت له إبادة الهنود الحمر، أصحاب الأرض الحقيقيون، وفرَّقت بين الأميركي الأبيض والأميركي الأسود، لأنها بكل بساطةٍ عُنصرية مازالت قائمة وموجودة إلى اليوم، أم أن سذاجة العرب تدفعهم إلى الاعتقاد أن سُمرتهم يُمكن أن تحجب عنهم عنصرية العمّ سام لمُجرَّد أنها أقرب إلى بشرته البيضاء من البشرة السوداء والحمراء.
الأميركي لا يحسّ بوجودك إلا إذا أثبتّ له أنك قوي بالقدر الذي يدفعه إلى أن يخشى بطشك، أما إذا كنت ضعيفاً فأنت بالنسبة إليه جزء من قطيع بقره، لا تمتلك في نهاية الأمر سوى أن تَعُدّ اللحظات قبل أن تمر حتماً إلى المسلخ.
وإن كنت محظوظاً فأنت جواده العزيز إلى قلبه، حظُّك من الحياة هو بحسب قُدرتك على الجَري من دون توقّف ومن دون تعثّر، وعندما يحدث ذلك بسبب طول الطريق أو أرضيّة زَلِقة فإنه سيكافئك حتماً برصاصةٍ في الرأس تُنهي حياتك بسرعةٍ وهي هدية في الحقيقة لا يمنحها الأميركي إلا لأصدقائه المُقرّبين من أمثال العرب المُخلصين الذين لا يتوقّفون عن الجَري كما الرقص لِلَفت انتباهه.
حين تُعادي الأميركي فإنه يُصادر بيتك بحجَّة أنك مُشاغِب وتُشكِّل خطراً على السِلم العالمي، فتصبح بلا بيت ولكنك تعرف أنك بلا بيت، فتسعى إلى استرجاع بيتك بكل الوسائل والطُرُق، بينما حين تقبل أن تكون خادِماً له فإنك تُمسي بلا بيت وأنت تعتقد أنك تمتلك ذاك القصر الجميل الذي سبق أن منحته له بإرادتك، حتى تنجو من صفة المُشاغِب.
وعندما يَضجَرُ منك يأمرك أن تُنظّف البيت وتحرسه وأن تبيت أثناء غيابه في غُرَفِ الخَدَم، بل ويتسلَّل إلى عقلك ليُقنعك بأنك لا تستحق أن يكون لك بيت مستقل ما دمت في الأصل خادمه، فرضاه عنك يكفي جوعَك واستسلامك له يغطي عُريك.
الأميركي يستمتع برقصنا له على الجمر ونحن نعتقد أننا إن لم نفعل فسوف نُحرَم إلى الأبد من نعمة الرقص التي لا يُوفّرها لنا سوى الأميركي، الذي يتطوَّع لمساعدتنا على الاقتناع أكثر بخيبتنا تلك، ويدفعنا أيضاً إلى الاعتقاد بأننا لا نمتلك خيار قول لا وأنه من الأفضل لنا أن ندخل غرفة نومه بإرادتنا من أن ندخلها غصباً، وحين نحاول أحياناً أن نتمرَّد على هذا الأسلوب من الحياة غير الإنساني يبدأ يصرخ بشدَّة ويقرع أي شيء أمامه، فلا نحتمل غضبه ونخاف أن يرمينا في الشارع بدل غُرَف الخَدَم، فيهدأ قليلاً ثم يكافئنا بأن يرمينا إلى ما وراء الشارع، حتى لا نتجرّأ على إغضابه مرة أخرى.
اعتقادنا بأن هناك دائماً مرحلة أسوأ مما نحن عليه يمكن أن يدحرجنا إليها الأميركي، هو ما يسمح بخِداعنا كل مرة خوفاً من أن نخسر شيئاً نحن في الحقيقة قد خسرناه منذ أن تسلَّل إلينا الشعور بأن الحق يمكن أن يتجزَّأ، بينما الحقيقة أنه ليس هناك سُوء يمكن أن يلحق بنا أسوأ مما نحن عليه، ورغم ذلك لا زلنا نتساءل لماذا يخدعنا الأميركيون في كل مرة ألف مرة ولماذا يقتلنا الأميركيون لمُجرَّد التسلية أو المَرَح، ولكنهم يقتلون الجياد.. أليس كذلك؟