اغتيال سليماني والمهندس... جريمة دولة مارقة
ترامب آكل الثوم بتصرفه الأرعن هدّد الوجود الأميركي العسكري وغير العسكري خصوصاً بعد قرار البرلمان العراقي بضرورة خروج كل القوى الأجنبية من العراق.
ما جرى أثناء تشييع الفريق الشهيد قاسم سليماني من خروج للجماهير في العديد من المدن الإيرانية عن بكرة أبيها هو اعتراف وامتنان لما قدّمه هذا القائد لإيران والأمّة الإسلامية ولقضية فلسطين والقدس الشريف.
لكن ما جرى هو أكبر من تشييع لهذا القائد الفذّ البار بشعبه وأمّته. ما جرى كان استفتاء حقيقياً وتجديداً لشرعية النظام الإيراني. وهذه هي المرة الثالثة التي يحصل فيها مثل هذا الأمر منذ انتصار الثورة، حيث عبّر الشعب في إيران عن ولائه للنظام الإسلامي وتعبئته وراء قياداته ورموزه للمرة الأولى حينما صوّت على دستور الجمهورية الإسلامية والمرة الثانية عند وفاة الإمام الخميني رحمه الله والمرة الثالثة اليوم. إنه أحسن رد على الذين راهنوا على تآكل رصيد هذه الثورة.
في تقديري، إن المسؤول عن هذه الجريمة هو المؤسَّسة العسكرية واستخباراتها الأميركية، أما ترامب فلم يكن سوى آكل الثوم. صحيح أن ترامب قد توهَّم أنه بعملية اغتياله للجنرال السليماني ولأبي مهدي المهندس ورفاقهما الآخرين سيرفع من أسهمه الانتخابية، ولكن هامش المخاطرة كان كبيراً جداً بحيث قد يكون لهذا العمل الإرهابي نتائج عكسية تؤدّي إلى تآكل كل رصيده الانتخابي، وهذا ما تدل عليه الأحداث المُتسارعة في الساحة الأميركية.
ولكن لماذا اختارت المؤسَّسة العسكرية الأميركية توريط هذا الرئيس البليد في هذه الجريمة الشنعاء في هذا التوقيت بالضبط؟
هل تريد الدولة العميقة إظهار ترامب بمظهر الرئيس المُتهوِّر البليد العاجز عن رعاية المصالح الأميركية وتدبير الملفات الشائكة؟ ما يزيد من الضغط على مجلس الشيوخ الذي سيحسم قريباً قضية عزل ترامب؟
كل شيء ممكن، والصراع بين الدولة العميقة في أميركا والبيت الأبيض ليس جديداً.
من جهة أخرى، لا أنكر أن الأوضاع داخل العراق لم تكن مستقرّة في الأسابيع الأخيرة، وكانت هناك احتكاكات وتجاذبات بين محتّجين عراقيين، ولا يخفى على المُتتّبع المهتم بالشأن العراقي مدى رغبة الجهات الدولية الموجودة على الأراضي العراقية في توظيف هذه الاحتكاكات والتجاذبات لمصلحتها. إلا أنه من المُستبعَد أن يكون اغتيال شخصية بحجم سليماني لهذه الأسباب.
في الحقيقة هناك حدثان لفتا انتباهي أثناء محاولتي فَهْم ما جرى. الأول هو إجراء البحرية الإيرانية للمرة الأولى في تاريخ إيران الحديث مناورات بحرية شاركت فيها البحرية الروسية والصينية في المحيط الهندي. هذا الأمر أقلق البنتاغون الذي رأى في هذه المناورات ليس فقط فشلاً في سياسات ترامب لاحتواء وتطويق وعزل إيران، بل أيضاً تهديداً لبحريته ونفوذها في الخليج الفارسي وخليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي، وتهديدا للمصالح الاقتصادية والتجارية الأميركية. فهل أراد الجيش الأميركي أن يعاقب الإيرانيين على استدعائهم للصين وروسيا إلى المياه الدافئة في الخليج؟ وهل كانت هذه الضربة تهديداً لإيران إن هي مضت في هذا المنحى الذي يرى فيه المركب النفطي العسكري النافذ في الإدارة الأميركية الحالية تهديداً لمصالحه؟
الحدث الثاني هو المهلة التي منحتها إيران للأوروبيين للوفاء بالتزاماتهم بخصوص الاتفاق النووي، وقيامها أخيراً بخطوات أكثر جرأة في تخفيض التزاماتها بهذا الاتفاق. أميركا التي لجأت إلى كل وسائل الحصار واستنفدت كل وسائل الضغط لإرغام إيران على التفاوض من جديد على برنامجها النووي فقدت توازنها، فلجأت إلى هذا العدوان علها تُرهِب القادة الإيرانيين وترسل رسالة قوية في أنها قادرة على إيلام الإيرانيين وردعهم، إن هم استمروا في تحديهم لها ولا سيما في المجال النووي وفي تطوير قدراتهم الصاروخية.
هل نجحت أميركا في أهدافها التي سطّرتها؟
الجواب واضح: لا! فهي وحّدت العراقيين ضدّها ودعمت لُحمة الإيرانيين وجدّدت عداءهم لها حينما أعادت إلى ذاكرتهم جرائمها في إيران منذ منتصف القرن الماضي أي منذ دعمها الانقلاب ضد الدكتور محمّد مصدق، ووقوفها بجانب الشاه واستخباراته المجرمة (السافاك) التي أذاقت الشعب الإيراني الويلات.
ترامب آكل الثوم بتصرفه الأرعن هدّد الوجود الأميركي العسكري وغير العسكري ولا سيما بعد قرار البرلمان العراقي بضرورة خروج كل القوى الأجنبية من العراق والمقصود الأول هو القوات الأميركية طبعاً. كما أضعفت مواقف أصدقائها وحلفائها في العراق ومجمل المنطقة.
جريمة ترامب لم تخف القادة الإيرانيين ولم تثنهم عن الذهاب إلى أبعد الحدود في تخفيض التزاماتهم بالاتفاق النووي، الذي أستطيع أن أقول اليوم فيه إنه قد انتهى، وهذا أكبر وأحسن وأقوى رد في نظري اعتمدته إيران على أميركا ومَن ساندها ولو بشكل مُحتِشم من الأوروبيين في جريمتها.
إيران مُصرّة على الانتقام ومن المؤكد أن القرار بضرب الوجود العسكري الأميركي في المنطقة قد اتُخذ. ومن المؤكد أيضاً أن ما بعد اغتيال قاسم سليماني سيكون مختلفاً عمّا سبقه.