الصين.. للصراصير مفعول أقوى من لحم البقر
لن يتوقّف المُتوجِّه إلى الصين عن سماع بعض الطُّرَف والأسئلة التي يعتقد البعض أنها تُلخِّص حياة الصينيين، الأولى هي "هل ستأكل صراصير؟" والثانية "غداً تصغر عيونك"، وكأن العيون الكبيرة أعطت العرب البصيرة أو أن اللحوم الحلال منحتهم الصحّة العقلية.
هي عبارات لا بدّ من سماعها، لا بل وسماعها كثيراً، إلى أن تحطّ بك الطائرة في أحد مطارات المدن الصينية، عندها ستعرف كم أنجزت تلك العيون على الرغم من صغرها، لأنها تمتلك ما هو أهمّ من البصر بكثير، والذي هو البصيرة.
جولة صغيرة، في إحدى مدن الجنوب، والتي هي من المدن التي لم تبلغ من التطوّر بعد، ما وصلت إليه مدن الشمال، على اعتبار أن التنمية الاقليمية في بلداتهم بدأت شمالاً، وهم يعملون حالياً على تنمية المدن الواقعة في الجنوب، تجعلك تُدرِك أن للصراصير مفعولاً أقوى من لحم البقر والغنم ، فلقد أنتجت سواعدهم ما لم تتمكَّن البلدان العربية من إنتاجه على مدى عقود.
فلا يكاد يمرّ وقت طويل حتى يُدرِك المرء، طريقة ترتيبهم لأوليّاتهم، ابتداء من شوارعهم الصغيرة، مروراً بالطُرُق السريعة وصولاً إلى حفر الأنفاق، وانتهاء بالمشاريع الاستراتيجية الكبيرة، فهذه المنطقة قد تمّ تسويرها اليوم، لأنه يجري حفرها لإنجاز بعض الإصلاحات على الكابلات الكهربائية، ثم وبعد ذلك بيومين قد وضِع منصف في هذا الشارع، إذا سيتمّ فصل الكهرباء المُغذّية للشارع بأكمله إلى قسمين، وهذا هو الغرض من الحفرة.
أما هذه المنطقة المعزولة، فهي مُخصَّصة لإنشاء نفق، ولذلك حينما تسمع بين الوقت والآخر أصوات تفجيرات، عليك كعربيّ مُقيمٍ في هذه المدينة، أن تستبعد أن يكون هذا الضجيج آت من حروب أو مؤامرات، كما يدَّعي العرب دائماً، بل هي أصوات إنجاز ودويّ مُثمِر، ناتج من تفجير لجزء صغير من النفق، كي تتابع عملية حفر المرحلة التالية، إلى أن تتم رؤية النور في آخر النفق، فهم لا ينتظرون المُعجِزة الإلهية كي يبصروا الضوء في آخر أنفاقهم المُظلِمة، بل يعملون على تصنيع هذا النور.
وأما عن مفهوم "الورديّة" أو الدوام، والذي يُكافئ عمل العامل مدة 8 ساعات متواصلة، ويُدرَّس في معظم الكليات الهندسية، فهو من المفاهيم التي ستبقى مُجرَّدة، ونظرية، في خيال القارئ، حتى يأتي إلى الصين، ليرى عمّال الكهرباء والنظافة والبلديات، يُزاولون عملهم ليلاً، ويتم تبديلهم نهاراً على مرحلتين.
ولطلاب الجامعات قصَّة أخرى، فهم يبدأون عملهم في الساعة الثامنة والنصف صباحاً، مع استراحةٍ قصيرةٍ لمدة ساعتين في فترة الظهيرة من الثانية عشرة وحتى الساعة الثانية، ثم يعملون بعد ذلك حتى السادسة مساء، ليأتي بعدها وقت الاستراحة غير الطويل أيضاً، ومن ثم يعاودون العمل حتى العاشرة مساء، فيخالهم الطلبة العرب ينامون في مكاتبهم، مع تناولهم لما هو مُغذّ من الطعام، على مدار اليوم، كي يتمكَّنوا من الإنتاج بشكلٍ أكبر.
أما إذا رأيت أثراً لدخان سيجارة، فعليك أن تُدرِك فوراً أنه يعود إلى عربيّ، لأنهم نادِراً ما يتناولون هذا النوع من المواد التالِفة والمُتلِفة.
وفي الوقت الذي لم يزل فيه المواطن العربي، يحلم بأمتارٍ مربَّعة، كي يعيش باستقلال، يعمل الصينيون على إنجاز برجيّات متوسّطة، تصل إلى 20 طابقاً، بيحث يتألّف الطابق الواحد من 14 شقة، وهم مع ذلك قد وضعوا سياسات سكانية، تهدف إلى الحد من الكثافة، عن طريق تحديد العدد الأقصى للأطفال بإثنين، على عكس العرب الذين لا يتوقّفون عن الإنجاب، حتى تمتلئ عيونهم من تشكيلة صحن الفواكه الذي تنتجه غرائزهم، المؤلّف من ذكرٍ وأنثى.
ربما هي مظاهِر طبيعية، أو أقرب إلى ما يجب أن يكون عليه الواقع، إلا أننا نحن القادمون من الشرق الأوسط، لم نزل نرى في كل ما سبق، نوعاً من الغَرابة والإبداع، لا سيما وأننا منذ الصِغَر وعِدْنا بحياة تشبه الحياة، إلى أن كبرنا وعرفنا أن جميع ما سبق هو أحلام لن تتحقَّق، فقرَّرنا المُغادَرة علَّنا نحظى بالأفضل.