رهانات داوود أوغلو بوجه إردوغان.. تغيير قواعد اللعبة
في خطاب أحمد داوود أوغلو وبرنامج حزبه الوليد نرى تصوّراً جديداً، يحاول أن يتجاوز خطاب إردوغان ومُمارساته. حزب مُستقبل تركيا يُقدَّم نفسه اليوم بديلاً استراتيجياً أكثر من كونه بديلاً حالياً وجاهزاً.
كشفت هزيمة إسطنبول الأخيرة أن قوَّة حزب العدالة والتنمية التي اكتسبها من خلال تنامي شرعيّته الخارجية قد تتهدَّد بالسبب نفسه. سمحت نتائج انتخابات إسطنبول بإظهار المخاطر المُمكِنة التي قد يُهدّد بها المحيط الخارجي النَسَق السياسي، حيث أدّت الأزمة السورية إلى خلق مشاكل داخلية في تركيا وإلى التأثير على المشروعية الاقتصادية للحزب الإسلامي الذي طالما تغنَّى بنجاحاته في هذا المجال، وأدَّى عدم التخطيط الجيِّد لسياسات استيعاب اللاجئين إلى خلق وضعيّات اجتماعية واقتصادية جديدة يتوجَّس منها سكان إسطنبول، ما أسهم في نجاح خطاب المُعارضة الذي تبنَّى في ذكاءٍ شديدٍ شعار "تركيا للأتراك"، وانتقد سياسات إردوغان التي لا تُراعي مصالح الشعب التركي خصوصاً على المستوى المحلي الذي تأثّر بموجات الهجرة واللجوء وبالقوانين التنافُسية الجديدة التي فرضها واقع الأزمة السورية.
يبدو أن حزب المُستقبل التركي الجديد قد قرأ هذا التحوّل الإنتخابي الجديد بذكاءٍ كبير، فالخطاب العِلماني الأتاتوركي الواضِح للحزب في برنامجه، وتركيزه على الحريات الفردية وعلى الخصوصيّات الدينية واللغوية يبتعد نسبياً عن الخطاب الأممي الجماهيري لإردوغان الإسلامي.
مقابل العلاقة الرئاسية بين الجمهور والسُلطان- الرئيس، يبحث الحزب الجديد عن شُركاء بدل أتَباع، وعن نُخبة "الانتلجنسيا" المتوجِّسة، وعن الطبقة المتوسّطة التي دعمت الحزب الإسلامي في بداياته والتي ما زالت غير مُنسجِمَة تماماً مع تحوّلات خطاب حزب العدالة والتنمية ومشروع إردوغان الجديد.
حزب الدبلوماسي العتيد، الذي يجمع المُتساقطين من مشروع إردوغان، يُقدِّم من خلال خطابه وبرنامجه رؤية جديدة لوجه السياسة المستقبلي في تركيا. الدعوة إلى النظام البرلماني والتركيز على الحريات الثقافية والدينية تجعله حزباً باحِثاً عن التحالُفات السياسية على مستوى النُخبة، وباحِثاً عن أولئك الذين يعيشون على الهامِش في سلطنة إردوغان الجديدة.
يريد الحزب الجديد أن يُغيِّر قواعد اللعبة السياسية من خلال تغيير النظام الدستوري الذي أصبح اليوم يخدم الحزب القوي الشامل، نحو النظام البرلماني الذي تتعايش فيه الأحزاب الضعيفة، والذي يُمكِّنها من خلال التحالفات القوية من إمكانية الوصول إلى الحُكم.
في مقابل كارِزميّة إردوغان يهاجم أوغلو جنون العَظَمة ويبحث عن شُركاء بدل أتباع، وبدل النظام الرئاسي، حيث تتجمَّع السُلطات في يد الرئيس، يبحث أوغلو عن نظامٍ برلماني يُراقب فيه البرلمان الحكومة ويحدّ من سُلطاتها. على مستوى التسيير يهاجم الحزب الجديد البرغماتية ويدعو إلى الشفافية ويدعو إلى العودة إلى تركيا الأتاتوركية التقليدية التي يحنّ البعض إليها، بدل النزعة السُلطانية الأممية التي يقودها إردوغان.
رغم ذلك، لا يبدو –على الأقل من خلال برنامج الحزب المُعلَن وماضي مؤسّسيه السياسي- أن الحزب الجديد سيُغيِّر كثيراً من مواقف تركيا الخارجية وسياساتها، فصاحب نظرية العُمق الاستراتيجي هو الذي كان يدعو إلى تمكين تركيا من لعب دورٍ مركزي في منطقة الشرق الأوسط ودول البلقان، حيث يؤدِّي التفريط في الحدائق الخلفية (المنطقة العربية ودول البلقان) إلى تقهقُرٍ خارجي وضعفٍ داخلي لتركيا وريثة التاريخ العثماني الأتاتوركي المُشترك.
لقد أفقدت برغماتية المُمارسة خطاب الإسلاميين الكثير من ألَقه، فالآمال التي تكبّل بها خطابه التعبوي الانتخابي الداعي إلى العدالة الاجتماعية وإلى تطبيق الشريعة، وتحرير القدس، والخروج من تبعيّة الغرب وتحقيق دولة العالم الإسلامي كلها اصطدمت بواقعٍ سياسي لم ينجح الكثير منهم في تجاوزه.
ينسجم خطاب الحزب الجديد رغم عِلمانيّته البادِية، مع الرؤية النقدية العامة التي أصبحت اليوم تروّج داخل الحركات الإسلامية وحولها بعد "الربيع العربي". في مُقابلة مع مجلس العموم البريطاني أكَّد فرع الإخوان المسلمين في لندن أن إسلاميين لا يجدون إشكالاً كبيراً في موضوع الحقوق والحريات الفردية، فهل يمثّل الحزب الجديد تصوّراً جديداً نقدياً واستشرافياً لواقع تركيا ولواقع الإسلاميين بعد انتكاسات "الربيع".
من جهةٍ أخرى كشفت مرحلة حُكم الإسلاميين عن فراغٍ كبيرٍ في طبيعة المشروع السياسي والاقتصادي لهذه الحركات، وأمام حزب المُستقبل في هذا السِياق خيارات مُتعدِّدة تجاه الخطاب الديني ومدى حضوره في أدبيات الحزب وفي مرجعيّاته المُعلَنة والمُبطَّنة، فهل ينظر داوود أوغلو إلى نفسه كوريثٍ أخيرٍ لتُراث النورسي ومندريس وأربكان وغولن وإردوغان نفسه؟ أمْ سيُمثّل إعلاناً نهائياً عن أفول مشروع الإسلاميين في تركيا؟
تبدو الانتخابات المقبلة ساحة مهمَّة لاختبار الحزب الجديد وقُدرته على تحقيق تغييرٍ سياسي حقيقي في تركيا، ومُزاحَمة جمهورية السُلطان التي مازالت تمثّل الفاعِل الأهمّ في تركيا الحالية.