مياه السلام.. النيل وأطماع إسرائيل
مُخطّطات الغرب الإستعماري لا تتنهي وهي مستمرة، تتغيّر باستمرار مع وجود أكثر من خطة لمواجهة المُتغيّرات العالمية والإقليمية، هناك خطط رئيسية وأخرى بديلة.
من يتتبع تاريخ المنطقة بإمكانه أن يلحظ بشكل لافت للانتباه تبدّل وتعاكس أدوار دولتين كُبريين في الإقليم، نعني مصر وإيران. ففي الوقت الذي كانت فيه إيران رأس حربة الرأسمالية العالمية وشرطي أميركا في الخليج كانت مصر تقود منظومة مقاومة هذا المشروع، وحين خبت مقاومة الهيمنة على مقدرات المنطقة في مصر انتصرت الثورة الإسلامية في إيران، وقادت منظومة مقاومة مشاريع الهيمنة.
مُخطّطات الغرب الإستعماري لا تتنهي وهي مستمرة، تتغيّر باستمرار مع وجود أكثر من خطة لمواجهة المُتغيّرات العالمية والإقليمية، هناك خطط رئيسية وأخرى بديلة.
حين قرَّر الرئيس المصري الراحل أنور السادات مُنفرِداً عقد صفقة القرن الأولى مع الأميركي وأداته الصهيونية في أيلول/ سبتمبر 1978 ثم في آذار/ مارس 1979 في ما عُرِف بمعاهدة كامب ديفيد أو معاهدة السلام كان يُغيّر وجه مصر ووجه المنطقة.
كان شاه إيران يمدّ الصهاينة آنذاك بـ 40% من احتياجاتهم النفطية طيلة حقبة الصراع العربي –الصهيوني، وحين سقط الشاه في شباط/ فبراير 1979 أصرّ الصهيوني الذي تنازل عن سيناء وخسر الحليف الإيراني في الوقت ذاته وبالتالي خسر 40% من إمدادته النفطية، أصرّ على أن تزوّد مصر الكيان بالنفط في سيناء والبحر الأحمر، وبطبيعة الحال وافق السادات وتطوّرت الصفقة في ما بعد وأصبحت صفقة غاز بظهور الغاز في ما بعد في عهد مبارك.
ومن ضمن بنود صفقة القرن الأولى إمداد الكيان الصهيوني بمياه النيل، وهو مشروع أسماه السادات (مشروع مياه زمزم) في كانون الثاني/ يناير 1979 وهو صياغة سياسية لمشروع عالِم صهيوني إسمه شاؤول أولوزوروف ويهدف إلى توصيل 150 مليون متر مكعب من مياه النيل إلى صحراء النقب.
في كتابه "طريق مصر إلى القدس" يقول بطرس غالي وزير الدولة المصري للشؤون الخارجية الأسبق في عهد السادات إنه ذهب إلى السادات وقال له إن توصيل مياه النيل إلى الصهاينة مستحيل لسببين: الأول أن إتفاق 1959 بين مصر ودول حوض وادي النيل يمنع بيع مياه النيل لطرفٍ من خارج دول الحوض، والثاني أن مياه النيل لا تكفي مصر أصلاً حتى نبيعها للغير.
وبطبيعة الحال رفض السادات رأي الخبير في الشؤون الإفريقية الدكتور بطرس غالي ووزير خارجيته وأقام ترعة السلام.
الجدير بالذكر أن تصريحات السادات الخاصة بمدّ مياه النيل إلى الكيان الصهيوني أثارت حفيظة رأس النظام الأثيوبي (منغستو هيلا مريام) الذي هدَّد بمنع مصر من حقهّا في مياه النيل إذا أخلَّت باتفاق 1959.
بعد اغتيال السادات اختفى ملف بيع مياه النيل في عهد مبارك، الذي اكتفى بإنكفاء مصر على نفسها وتقوقعها داخل حدودها، وإهمالها لمحيطها العربي والإفريقي.
استمر مبارك في صفقة البترول والغاز والتنسيق الأمني مع الكيان لاحتواء المقاومة الفلسطينية، وعمل عرّاباً لإتفاقات سلام بين العرب والصهاينة. وكانت التداعيات كارثيّة في الاقليم بعد ذلك الخروج الطوعي لمصر وتخلّيها عن قيادة الاقليم .
بدأت كارثة الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، ثم حاول العراق انتزاع زعامة الاقليم ودفعه آل سعود ومشيخات الخليج إلى خوض حربٍ عبثيةٍ ضد إيران لمدة ثماني سنوات (1980-1988 وكان شعار آل سعود وقتها حول هذه الحرب (لعلّ العقارب تموت بسمّ الأفاعي).
خلال تلك الحقبة العبثيّة احتلّ الصهاينة جنوب لبنان، ثم اجتاح بيروت نفسها عام 1982، وفرض معاهدة سلام مع لبنان أسقطتها المقاومة اللبنانية بعد شهور قليلة واستطاعت طرد الصهاينة في أيار/ مايو عام 2000 من دون اعتراف بالعدو ومن دون معاهدة سلام معه، بل استردّ لبنان أسراه ورفات شهدائه في انتصار العام 2006.
ثم كان احتلال العراق للكويت، وتدمير جيشه وحصاره إثنتي عشر عاماً تمهيداً لغزوه واحتلاله في العام 2003.
يقول الجنرال الذهبي للعسكرية الوطنية المصرية الفريق الشهيد عبدالمنعم رياض خلال محاضرة لشرح استراتيجية أميركا في المنطقة لطلبة كلية القادة وأركان الحرب: "بحلول العام 2000 فإنه من المُتوقّع طبقاً لإستراتيجية الأميركي لوضع يده على النفط وخصمه من رصيد جبهة المقاومة العربية هو احتلال العراق لأنه بوابة الأمّة العربية الشرقية".
وبحلول الألفية الجديدة كان تمهيد مسرح العمليات لإشراك "الإخوان المسلمين" في الحُكم في كل الدول العربية. هنا جاء المشروع الإسلامي التركي لإحياء إرث الخلافة العثمانية وتلاقت أهداف التركي مع مشروع الهيمنة الغربي الصهيوني.
كان رئيس الوزراء التركي الإسلامي الأسبق عدنان مندريس قد أدخل تركيا في حلف الناتو، ثم حلف بغداد وهو الذي منح قاعدة إنجرليك للأميركي وللصهيوني لتدريب طيّاريه وطيّاراته.
وهو أول حاكم إسلامي يعقد علاقات دبلوماسية مع الصهيوني، وسبق إيران الشاه في هذه الخطيئة.
وبمجيء حزب "العدالة والتنمية" الإخواني للسلطة في تركيا برعاية أميركية تلفت النظر خطبة الرئيس جورج بوش الإبن في العام 2004 في تركيا إذ قال إن النموذج التنموي الإسلامي التركي المُتحالِف مع إسرائيل هو الذي ينبغي أن يسود.
ساعد الغرب إردوغان بخطة مشروع مارشال مُصغَّرة تمهيداً لتقديم نموذج تركيا الإسلامي كمثل أعلى ينبغي أن يستولي على السلطة في البلدان العربية.
واللافت للنظر أيضاً أن كوندوليزا رايس قد أوضحت بشكلٍ أكثر "أن ستين عاماً من نموذج الديكتاتورية ينبغي أن ينتهي"، وهي تقصد النموذج التحرّري لمصر الناصرية رغم أن الناصرية كسلطة حُكم انتهت في العام 1971 في مصر، إلا أن المشروع نفسه مازال حيّاً في نفوس ووعي الأجيال الجديدة، ويقدِّم نفسه كبديلٍ وطني لأنظمة التبعية والاستسلام.
وجاءت ثورات الربيع المُلوَّن وتمّ إجهاض أحلام الجماهير بتسليم السلطة إلى الإخوان في مصر وليبيا وتونس، وما زالت سوريا واليمن تقاومان.
في ظنّي الشخصي أن التهديد بتعطيش مصر هو مناورة صهيونية وأداة ضغط على مصر لإستئناف مشروع زمزم الساداتي، وتوصيل مياه النيل إلى الكيان الصهيوني.
وهو جزء من صفقة القرن الثانية، أو فلنقل استمراراً لصفقة القرن الأولى التي أبرمها السادات.
مُخطّطات الغرب الإستعماري ليست قضاء وقدراً ما دام هناك مقاومة تجهض أو تعطّل هذه المخططات، فالمعارضة المصرية هي التي عطّلت مشروع نفق السلام، وبيع مياه النيل للصهيوني، وكذلك المعارضة العراقية هي التي أخرجت الأميركي من العراق، والمقاومة اللبنانية هي التي أخرجت الصهيوني من لبنان ومرَّغت أنفه وكسرت أسطورة التفوّق الصهيوني الذي لم ينتصر على العرب منذ العام 1967، والمقاومة الفلسطينية الحيّة هي التي تتصدَّى يومياً للعدو، وجعلت الهجرة العكسية خارج فلسطين واقعاً وحقيقة، كما أن صمود سوريا وجيشها الباسِل هو ما منع وقوعها في يد الإخوان (الإحتياطي الإستراتيجي لحلف الناتو).
وصمود اليمن هو ما منع آل سعود من تقسيم اليمن إلى ستة أقاليم، كما نصَّت مبادرة الحوار الخليجي، وما زالت إيران تُسانِد محور المقاومة في سوريا ولبنان وفلسطين واليمن.