المقاومة اليمنية.. من الصبر الإستراتيجي إلى الضربات الإستراتيجية
إذا ما افترضنا أن المُسيَّرات أو الصواريخ انطلقت من أقرب نقطة على الحدود السعودية– العراقية فهذا يعني أن المسافة ستكون بين 500 إلى 550 كلم بحسب نقطة الإنطلاق، في حين أن المسافة بين الشواطىء الإيرانية الغربية وصولاً إلى بقيق تُقارِب 350 كلم، وهي مسافات لا يمكن للطائرات أو الصواريخ قطعها من دون رَصدها.
تسير المواجهة في اليمن نحو مزيد من تعميق أزمة السعودية وورطتها التي باتت تطال هيبتها ومنشآتها الحيوية، بحيث لم يعد مُمكناً إخفاء الإحراج الذي تعيشه السعودية بعد توجيه ضربة موجِعة في العُمق الحيوي السعودي استهدفت منطقة بقيق حيث أكبر منشأة سعودية لمُعالجة النفط في العالم، ومنطقة هجرة خريص حيث ثاني أكبر حقل نفطي في العالم بطائراتٍ مُسيَّرةٍ يمنية.
بالنظر إلى مواقع الضَربات تشير النتائج إلى أنّ ما تمّ استهدافه هو المراكز الحيوية داخل المنشأة، بحيث يبقى تأثيرها على إنتاج النفط لفترةٍ طويلةٍ ويدّل ذلك على معرفةٍ دقيقةٍ وتفصيليةٍ بخريطة المنشأتين، ما يعكس بُعداً استخباراتياً يؤكّد فيه الجيش اليمني واللجان الشعبية امتلاكهم لذراعٍ استخباراتية مُتمكّنة وواسعة، بالإضافة إلى القُدرات العسكرية المُتميِّزة اللانمطية والتي تشكّل عامِل تفوّق في الميدان من خلال إنتاج واستخدام أسلحة دقيقة ورخيصة، استطاعت أن تهزم أحدث منظومات الرَصد والدفاع الجوي الأميركية والغربية التي تمتلكها السعودية.
هي طبعاً ليست المرّة الأولى التي تتجاوز فيها الطائرات المُسيَّرة والصواريخ اليمنية الباليستية منظومات الدفاع السعودية، لكنها المرّة الأولى التي يصل فيها سربان مكوّنان من عشر طائرات مُسيَّرة إلى هدفين يُعتبران عَصَب الإقتصاد السعودي، حيث تمّ إخراج نصف الطاقة الإنتاجية للنفط السعودي الذي يمثل حوالى 95% من الواردات السعودية، وهو ما ستكون له تأثيرات مُتعدّدة على الإقتصادين السعودي والعالمي في الحد الأدنى لأسابيع قد تصل إلى شهور.
على المستوى التقني يبدو التخبّط الأميركي والسعودي واضِحاً لجهة عدم التّمكُّن من الوصول إلى توصيفٍ دقيقٍ لما حصل، سواء بالنسبة إلى مسار الطائرات أو نقاط انطلاقها أو نوعها، واقتصر الأمر على التخمين والإتّهام غير المُستند إلى أدلّةٍ وهو تخمين يستند إلى مُقاربةٍ فيها الكثير من التبرير وإلقاء تبعيّة الأمر على إيران، وهو أمر ليس سهلاً وقد يأخذ الأمور إلى اتجاهاتٍ خطيرةٍ.
فكل من الفريقين الأميركي والسعودي سارَع إلى اتهام إيران من دون أن ينتظر نتائج التحقيق التي بدورها ستكون قاصِرة عن توصيف الحادث، فمن المؤكّد أنّ أجهزة الرَصد المختلفة لم تتمكّن من رؤية الطائرات أو الصواريخ المُجنَّحة سواء كانت يمنية أو إيرانية، بدليل أن التصريحات المُتباينة حول نقاط انطلاق الطائرات أو الصواريخ تضع الأميركيين والسعوديين معاً في حال إحراج كبيرة ، وهو ما استدعى تهكّماً واضحاً من الرئيس بوتين خلال قمَّة انقرة، حيث سخر بطريقةٍ غير مباشرة من السلاح الأميركي من خلال دعوته السعوديين إلى شراء منظومات الدفاع الروسية.
وبالنظر إلى ما يكشف عنه الجيش اليمني واللجان الشعبية عن أسلحة وانطلاقاً من العديد من الإستهدافات السابقة للمطارات والقواعد السعودية القريبة من الحدود ، أو تلك الواقعة في العُمق السعودي يبدو واضحاً أننا أمام إنجازات علمية يمنية أقلّه في الجانب المرتبط بالتصنيع أو التجميع لتكنولوجيا ذات مصدر إيراني، إذا ما استبعدنا إمكانية أن تقوم الخبرات اليمنية بإجراء التجارب والوصول إلى مرحلة التصنيع والاستخدام.
وفي كل من الحالتين سواء كانت المُسيَّرات والصواريخ إنتاجاً يمنياً خالصاً أو اعتمدت على تقنياتٍ أجنبيةٍ سواء كانت إيرانية أو صينية أو كورية، يشكِّل الأمر بالنسبة إلى الأميركيين والسعوديين فضيحة من العيار الثقيل في أكثر من اتجاه.
فالسعوديون أعلنوا منذ حوالى الشهر أنهم قاموا بقصف البنى الأساسية لكل ما يرتبط بتصنيع المُسيَّرات والصواريخ، وهو اعتراف ضمني سعودي أن المُسيَّرات والصواريخ تُصنَّع في اليمن ويتناقض مع التصريحات الأخيرة المُرتبطة بضربة بقيق وخريص.
أما بالنسبة إلى نقاط انطلاق المُسيَّرات والصواريخ فمن أيّ اتجاه انطلقت، يبدو الأمر مُحرِجاً للسعوديين الذين يحاولون الالتفاف على الحقائق والتقليل من أهمية الأسلحة اليمنية، ومحاولة التصويب على الحشد الشعبي العراقي من جهة وعلى إيران من جهةٍ أخرى.
فإذا ما افترضنا أن المُسيَّرات أو الصواريخ انطلقت من أقرب نقطة على الحدود السعودية– العراقية فهذا يعني أن المسافة ستكون بين 500 إلى 550 كلم بحسب نقطة الإنطلاق، في حين أن المسافة بين الشواطىء الإيرانية الغربية وصولاً إلى بقيق تُقارِب 350 كلم، وهي مسافات لا يمكن للطائرات أو الصواريخ قطعها من دون رَصدها على شاشات الرادارات السعودية والأميركية المتواجدة بكثرةٍ في محيط الهدفين، هذا إذا افترضنا أن طائرات الإواكس او الأقمار الصناعية لم تكن في الخدمة حينها.
احتمال آخر وهو أن تكون المُسيَّرات والصواريخ قد انطلقت من سفينةٍ حربيةٍ إيرانيةٍ وهذا يعني أيضاً فضيحة أكبر لعدم تمكّن أجهزة الرَصد من رَصدها، مع الإشارة إلى أنّ هذه الاحتمالات هي افتراضات مُنطلقة من الاتهامات السعودية والأميركية لإيران والحشد الشعبي العراقي ، لا أعتقد أنّهما يمكن أن يُغامرا بهكذا أمر آخذين بعين الإعتبار إمكانية اكتشاف العملية ولو بنسبة 1% لما فيه من مسؤولية وتعقيدات .
يبقى أنّ الذي لم يكتشف المُسيَّرات والصواريخ المُجنَّحة ضمن مسافة 500 كلم مزدحمة بأجهزة الرصد والدفاع الجوي ، لن يتمكَّن من رصدها على مسافة 1100 كلم خصوصاً إذا ما تمّ تزويد المُسيَّرات والصواريخ بقاعدة بيانات دقيقة للتضاريس وهوامش المناورة للتملّص من الرادارات وصواريخ الدفاع الجوي ، رغم اعتقادي أن أجسام المُسيَّرات والصواريخ مصنوعة من مواد مُركّبة ذات بصمة رادارية صغيرة ، وهو العامل الأهم الذي مكَّن المُسيَّرات والصواريخ من الوصول إلى أهدافها .
وأخيراً لا بدّ من التأكيد أنّ اليمن الذي اضطر إلى خوض الحرب في ظروفٍ معقّدةٍ وميزان قوى مُختّل لمصلحة قوى العدوان ، انتقل من مرحلة الصبر الإستراتيجي التي اعتمدت الصمود وإعادة التموضع إلى مرحلة الضربات الإستراتيجية التي ستُغيِّر شكل المواجهة ومضمونها ، والتي ستُعجِّل في انطلاق المفاوضات لإنهاء الحرب على اليمن ، وهو أمر سيبدأ قريباً خصوصاً بعد التطوّرات الكبيرة المُرتبطة بعَصَب الاقتصاد السعودي الذي سيواجه ضربات أكبر وأكثر تأثيراً في حال استمرّ التمادي السعودي والاستغلال الأميركي لوضع السعوديين الصعب.