50 عاماً على "ثورة الفاتِح".. ليبيا إلى أين؟
لا شك أن الجميع بحاجةٍ ماسةٍ إلى عقد جلسة حوار وطني حول التوزيع العادل للإيرادات النفطية في ليبيا، لأن هذه المسألة تمثل أحد العوامل الرئيسة للأزمة، والحل الوحيد لمُعالجتها هو الالتزام بالشفافية، ويجب الدعوة مُجدّداً لكل السلطات المسؤولة ووزارة المالية والمصرف المركزي لنشر الميزانيات والنفقات العامة بالتفصيل، حتى يتمكَّن كل الليبيين من رَصْدِ كل دينار يتمّ إنفاقه من ثروتهم النفطية. والعمل مع الجهات الوطنية المعنية الأخرى لتعزيز الشفافية وحل هذه الأزمة – وذلك خدمة لمصالح جميع المواطنين.
البدايات تأتي مع ذكرى ثورة الفاتِح في ليبيا هذا العام، على وَقْعِ الحرب الدائرة بين حكومة الوفاق والجيش الوطني الليبي، في معركةٍ لم يُعرَف حتى الآن مَن يحسمها أو يوقفها. في الذكرى الخمسين للثورة التي غيَّرت وجه ليبيا، عاد إسم العقيد معمَّر القذافي إلى بعض شوارع ليبيا، حيث خرج مواطنون مؤيدون لحكمه الغابر، للاحتفال بذكرى "ثورة الفاتح" التى بدأت عام 1969، ورفعوا أعلام عهده بينما رفع بعضهم صوَراً له.
لقد قام القذافي الذي كان قائداً لحركة الضبّاط الوحدويين في الجيش الليبي، بالسيطرة على الإذاعة الليبية في بنغازي ومُحاصَرة الملك ومن ثم الاستيلاء على السلطة في ليبيا. وأعلنت الجمهورية فى ليبيا، وتولّى معمَّر القذافي الحُكم، بعد أن تنازل ولّي العهد الليبي عن العرش، بينما كان الملك نفسه في رحلةٍ علاجيةٍ في تركيا. ودعمت الدول العربية ومنها مصر وسوريا والعراق والسودان القذافي، حيث تمّ ضبط الأمور الداخلية في الدولة الليبية بعد وقت قليلٍ من الانقلاب.
حاول بعض ممَن شاركوا القذافي الانقلاب على الملك السنوسي الانقلاب عليه، إلا أنه تمّ القبض عليهم. وفي عام 1976 أعلن القذافي قيام سلطة الشعب في البلاد، وتبنّى ما عُرِفَ بـ"النظرية العالمية الثالثة" والتى تقوم حسب وجهة نظر القذافي على الإسلام والاشتراكية والإنسانية والتقدّم. ودوّنت هذه النظرية في الكتاب الأخضر الذي أصدره وأوضح فيه فكرة السلطة.
قامت ثورة ضد نظام القذافي في 15 فبراير/ شباط، حتى قتله متظاهرون في مدينة سرت يوم 20 تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2011، لتنتهي مسيرة الفاتح، وتبدأ الأخبار حول تقدم قوات "شرق ليبيا"، بقيادة خليفة حفتر، نحو العاصمة الليبية طرابلس، الذي تتعدّد لديه الدوافع والعوامل لعمليته العسكرية في محاولةٍ للسيطرة على العاصمة. فبعد ما يزيد على سبع سنوات من سقوط نظام معمَّر القذافي، لا تزال ليبيا مُنقسمة، وتوجد حالياً جبهتان تتنفاسان على السلطة في البلد الغنّي بالنفط، هما حكومة "الوفاق الوطني" في طرابلس، بقيادة فايز السراج، وحكومة أخرى موازية في شرق ليبيا بالتحالف مع "الجيش الوطني الليبي" بقيادة حفتر.
تحرّك حفتر العسكري من بنغازي نحو طرابلس يُعيد للأذهان زحف القذافي قديماً من طرابلس نحو بنغازي، مع اختلافٍ أساسي وهو "تناقُض وضبابية الموقف الأوروبي الحالي". فالوصول إلى طرابلس والسيطرة على جنوب وغرب ليبيا يتطلّب المرور على مدينة الوسلة معقل قبيلة بني وليد، أكبر قبائل ليبيا، والتي رفض أعيانها وأفرادها رفضاً قاطِعاً أن تمرّ قوات حفتر عبر مناطقهم. ففي حال مقاومة الأهالي في ليبيا لهذا الزحف العسكري يمكن أن يُغيّر المجتمع الدولي والغرب موقفهما بين عشيّة وضُحاها، فيُقرِّر حفتر حينئذ وقف العملية العسكرية والاكتفاء بما حقّقه من مكاسب ميدانية يمكنه استغلالها تفاوضياً.
على المستوى الدولي، سبق أن أصدرت حكومات كل من الولايات المتحدة وإيطاليا والإمارات وفرنسا وبريطانيا بياناً مشتركاً دعت فيه إلى وقف التصعيد الحالي مؤكَّدة على عدم رؤيتها لحلٍ عسكري للصراع؛ خوفاً من إمكانية تسبّب ذلك في "جرّ ليبيا نحو الفوضى". لكن عديد التحليلات يصف هذا التحرّك بأنه مُجرَّد تحرّك دبلوماسي ولا يعكس الموقف الحقيقي لتلك الدول، التي ترغب في الظهور بمظهر الراغِب في الحوار السلمي. وهنا يأتي الحديث حول قطر وتركيا، حيث يرى البعض في الأزمة الليبية جبهة أخرى للخلاف، ولهذا تسعى تلك الدول إلى التأثير على سَيْرِ الأحداث وفرض نفوذها في ليبيا.
لقد تكررت مهاجمة حفتر والمتحدّث باسم قواته العسكرية لقطر وتركيا بدعوى "دعمهما الجماعات الإرهابية"، فمن المؤكَّد أن واحداً من أهداف حفتر هو إنهاء أو إضعاف العلاقة التي تربط قطر وتركيا بالأحزاب والحركات السياسية في طرابلس وغيرها من الأطراف الداخلية في ليبيا. وقد أضحى الدور القطري والتركي ليس بنفس أهمية وقوّة الدور الذي تقوم به مصر والإمارات في الشرق الليبي، الذي يرغب في تغيير الخارطة السياسية داخل ليبيا.
وتشكل المخاطر على دول الجوار الليبي أحد العوامل التي يستغلّها حفتر في عمليته العسكرية الحالية، فالجيش الجزائري مشغول بترتيب الأوضاع الداخلية في بلاده. وتعد الجزائر من أكبر مُعارضي الخيار العسكري لحلّ الأزمة الليبية؛ خوفاً من تداعيات هذا على الأمن القومي الجزائري، وخصوصاً في ما يتعلّق بتسلّل عناصر إرهابية لها عبر حدودها مع ليبيا. فالجزائر كانت تُعيق تحرّك حفتر قبل ذلك، وبانشغال حكومتها بالوضع الداخلي سنحت له فرصة.
التطوّرات التي تشهدها ليبيا تُثير قلقاً بالغاً لجهة مستقبل الدولة الليبية، ووضعيّتها في المحيط الإقليمي، خصوصاً نطاق الجوار المباشر. فسبق أن فاجأت محافظة برقة (شرق ليبيا) الليبيين والعالم، بإعلان نيّتها التحوّل إلى إقليمٍ مستقل. ورغم أن المشكلة تصاعدت بشكلٍ مُفاجئٍ في السنوات الأخيرة، إلا أن بذورها كانت قائمة في الوضع الليبي قبل ذلك، الأمر الذي يجعل التعامُل معها أمراً مُعقّداً ومُلحّاً في ذات الوقت. بَيْدَ أن الظاهر حتى الآن من المُعالجة الرسمية لذلك التطوّر، لا ينمّ عن إدراكٍ لحجم الخطر الكامِن فيه، أو ربما يعكس العجز عن التعامُل معه كما ينبغي.
لا شك أن الجميع بحاجةٍ ماسةٍ إلى عقد جلسة حوار وطني حول التوزيع العادل للإيرادات النفطية في ليبيا، لأن هذه المسألة تمثل أحد العوامل الرئيسة للأزمة، والحل الوحيد لمُعالجتها هو الالتزام بالشفافية، ويجب الدعوة مُجدّداً لكل السلطات المسؤولة ووزارة المالية والمصرف المركزي لنشر الميزانيات والنفقات العامة بالتفصيل، حتى يتمكَّن كل الليبيين من رَصْدِ كل دينار يتمّ إنفاقه من ثروتهم النفطية. والعمل مع الجهات الوطنية المعنية الأخرى لتعزيز الشفافية وحل هذه الأزمة – وذلك خدمة لمصالح جميع المواطنين.
يبقى إنه وفي ظلّ عجز الطرفين عن تحقيق نتيجة عسكرية حاسمة، انتقلت المواجهة العسكرية بينهما إلى تبادُل ضرب القواعد الخلفية بينهما لعرقلة خطوط التموين والإمداد، فالوقائع العسكرية في الميدان تدلّ على أن قوات حفتر لا تزال تحافظ على مواقعها جنوب العاصمة لكنها تفشل في إحراز تقدّمٍ ملموس، في حين فشلت قوات حكومة الوفاق في استعادة ما خسرته لصالح قوات حفتر، لكنها منعت سقوط العاصمة. كل ذلك يحدث في الذكرى الخمسين لحركة أيلول/ سبتمبر.. ليأتي الرد: ليبيا إلى أين؟.